يوسف مكاوي

:: عضو نشيط ::
إنضم
22 فبراير 2008
المشاركات
827
مستوى التفاعل
0
الإقامة
الإنترنت
عاد السيد عبد الوهاب إلى الفندق في الساعة الواحدة ليلاً وهو يتصور جلوس الرجل العجوز خلف الطاولة وعلى يساره لوحة المفاتيح، ذلك الرجل الذي استقبله صباحاً بابتسامته البشوشة عندما سأله عن غرفة شاغرة، طرق على المائدة، ولم يجبه أحد.
يبدو أنه نائم، قال السيد عبد الوهاب، ومد كفه إلى لوحة المفاتيح، وسحب المفتاح رقم / 2 / وهو يتجه صوب غرفته، تناهى إلى سمعه صوت سقوط صحن زجاجي على البلاط. أيقظ الصوت شهيته لاحتساء فنجان قهوة، تخيل جلوسه في الغرفة يحتسي القهوة، وألحت الرغبة وقادته إلى مصدر الصوت، مد يده ودفع باباً صغيراً خلف لوحة المفاتيح، فانفرج الباب، وأدى إلى غرفة صغيرة بمساحة مترين مربعين، دخلها ورأى شخصاً يولي بظهره إليه ويحرك طعاماً على سخان كهربائي تأحأح السيد عبد الوهاب، فاستدار الشخص بحركة بطيئة ولما رآه ارتعد وعلاه ارتباك، فبادره السيد عبد الوهاب: آسف الآن فقط أنهيت مشواري، فلم يرد عليه الشخص الذي أدار ظهره كرة ثانية وعاد إلى تحريك طعامه وبعد قليل حمل صحناً من الكوسا المقلية بالبيض ومر بجانبه خارجاً، رأى نفسه وحيداً في الغرفة فدنا إلى البراد، ورفع قنينة من الماء البارد إلى فمه عندئذ تناهت وقع خطوات، فاستدار والقنينة في فمه رأى ذات الشخص يدنو من البراد ويسحب ربطة الخبز من الدرج الأسفل الذي يشبه صندوق، فوضع القنينة مكانها قبل إغلاق الباب، قال له الشخص هذه المرة وهم يهم للخروج: تفضل كل معي.
أجابه وهو أيضاً يهم بالخروج: لا شكراً، عندما تفرغ، أرجوك اجلب لي فنجان قهوة إلى الغرفة رقم / 2 / .
أجاب الشخص وقد وقف في المدخل: أنا نزيل مثلك، يبدو ان العامل المناوب نام في إحدى الغرف الفارغة، نظر السيد عبد الوهاب إلى الخبز في يده، أردف قائلاً: أنا مستأجر غرفة شهرية هنا، هل نزلت اليوم؟؟
- أجل اليوم هو الأول، أعني هذه أول ليلة لي. قال له الشخص بلهجة ضيافية: لا يهمك، سأعمل لك القهوة بشرط أن تعتبر نفسك ضيفي.
- ما دمت تسكن هنا بصفة دائمة فأنا ضيفك.
قالها مازحاً واتجه إلى غرفته .
تصفح كتاباً، وبعد نحو ربع ساعة دخل الشخص يحمل فنجاني قهوة تتوسطهما كأس ماء.وعندئذ لم يجد السيد عبد الوهاب بداً لتكرار اعتذاره الشديد وسوء الفهم، ولكن الشخص ذكره بالشرط الذي بموجبه صنع له القهوة، فطلب إليه الجلوس وهو ينظر إلى الفناجين وعند جلوسه سأله الشخص: من أين حضرتك؟ قال وهو يرتشف القهوة المغلية جيداً والمرتفعة الحرارة:أنا يا سيدي من مدينة الحسكة شمالي البلاد، أقصى الشمال .
- وهل ستمكث طويلاً؟؟
- حوالي ستة أيام فقط وأنت؟؟
- لا أدري هذه مسألة خاصة، هل جئت لعمل، أم لزيارة أحد؟؟
- لا هذا ولا ذاك، جئت لزيارة اللا أحد، اعتدت على هذه الزيارات كل ستة شهور، أزور من لا أعرفهم مثل زيارتي لك الآن.
قال الشخص وهو يحدق بعبد الوهاب ملياً: هذه الزيارات ضرورية على ما يبدو لأي شخص وليس لك فحسب. قال عبد الوهاب: أحياناً نضجر الذين نعرفهم ونلجأ إلى الذين لا نعرفهم ولم يسبق لنا أن رأيناهم.
ولكن هل تسمح لي أن أسألك سؤالاً؟
قال الشخص : وهل جلوسنا لغير الحديث والأسئلة والتعارف؟؟
- السيد عبد الوهاب: ماذا تعمل؟
- الشخص : يا سيدي أنا الآن متوقف عن العمل.. وغرق في صمت كئيب.
- السيد عبد الوهاب محاولاً طرد شبح الصمت: أعني مهنتك في الحياة؟
- فرفع الشخص رأسه وأجاب: كنت أعمل في الخارج ولبثت خمس سنوات متواصلة خارج البلاد، سافرت في سن العشرين وعدت منذ ثلاثة شهور.
- وبيتك، ألا أهل لك؟؟
- لي أهل ولكن منذ ثلاثة شهور تفشل محاولات الذهاب إليهم، لقد فقدت كل شيء فماذا أفعل بأهلي،، إنهم يعجزون عن تقديم أي عون لي،،
- أنا أكبرك بخمس سنوات وأقول بأنك ما تزال تتعثر بمد قدمك إلى الدرجة الأولى من درجات الحياة لم تشرب كأساً من النهر الذي ستشربه، اليأس في سنك لا يعني غير الهزيمة في أفضل التفسيرات. قال وما زال محافظاً على هدوئه: يا سيدي قد يحدث وأغرق في نهري قبل أن أشربه.
- قال السيد عبد الوهاب وهو يواصل كلامه دون انقطاع: الذي يجدي هو أن تصر على شربه وتدافع عن حقك للحصول عليه، وإن شئت اسبح فيه كما تسبح الطيور في الفضاء .
ولما أخذ الحديث هذا الاتجاه المتوتر عرض الشخص على السيد عبد لوهاب فنجان قهوة أخرى في غرفته والسهر حتى طلوع النهار ثم عزمه على وجبة الغذاء مقدماً فوافق السيد عبد الوهاب على أن يعذره من الغذاء وخرج ببيجامته نظر في فراغات الممر وقاده الشخص وهو يقول: ليس هناك أطيب من السهر في الفنادق 0
جلس السيد عبد الوهاب على كرسي في الغرفة وخرج الشخص ليحضر القهوة وكانت الساعة تشير إلى الثالثة وعشر دقائق صباحاً فهتف به عبد الوهاب إلى الممشى: على فكرة، ما اسمك؟؟
جاء الصوت من الممشى: عائد .
تأمل محتويات الغرفة كل شيء يوحي بأنه سيهجر الغرفة صباح الغد، الثياب مرمية على الأرض،نقود ورقية ذات فئات صغيرة مرمية في الزوايا، أحذية
مقلوبة، صحون متسخة تأكلها العفونة، فناجين قهوة م**ورة، علاقة ثياب مخلوعة، ودلف عائد حاملاً القهوة وقال: هل أعجبتك هذه الفوضى؟
- تعجبني الفوضى إذا كانت منظمة، ولكن الرائحة الكريهة تخنق، هل أعينك في الترتيب وخلق فوضى منظمة؟؟
قال عائد: لا أشعر بأي رغبة لذلك،
- أرجوك قل لي ما تخفيه، ثلاثة شهور وأنت لا تعمل وتعيش في هذه الغرفة، هل تفسر لي ؟؟؟
جلس عائد وقال: سأقول لك يا صديقي وأنا أعرف بأنك لا تستطيع أن تقدم لي شيئاً.
وتحدث عن طفولته السيئة وهروبه من البيت إلى العاصمة والأعمال التي قام بها وهو في الثالثة عشرة من عمره ثم سفره إلى لبنان، ومن هناك سفره إلى خارج البلاد بجواز سفر مزور، وبعد خمس سنوات من العمل استطاع أن يدخر مبلغاً جيداً وفكر بالعودة إلى قريته وبناء بيت خاص به والقيام بمشروع تجاري، وفي أثناء هذا التخطيط علم أنه مصاب بالإيدز لأن زوجته التي تزوجها حديثا كانت مصابة وقال عائد وهو يحدق إليه بقوة: غادرت البلاد على الفور وعدت إلى بلدي، لم أذهب إلى قريتي إنني متردد كيف تريدني أن أذهب وأنا واثق من إصابتي فالاتصال ا كان دائماً بيننا، منذ ثلاثة شهور أسكن هنا أنفق نقود مستقبلي، كم أنا ساذج، ****، لا مستقبل لي، سأموت قريباً،أجل لا بد أن أموت بعد شهور قليلة، بعد سنة في أقصى حدود سخاء هذا المرض البخيل، وليس أمامي إلا أن أعوض نفسي، لا بد أن أعيش خمسين سنة في سنة واحدة، لن أنام لحظة واحدة،،، سأعيش كل تفاصيل الحياة ولحظاتها في هذه الفترة المتبقية من عمري، لدي مبلغ جيد يساعدني على تحقيق رغباتي، هل تعتقد يا عبد الوهاب أن ذلك سيقدم لي شيئاً؟؟؟
ولم تخرج الكلمة المضبوطة من حنجرته
ونهض وقد امتلأت عيناه بالدموع فنظر إليه عائد نظرة من ندم على أمر قاله قبل لحظات وخرج عبد الوهاب دون أن يقول كلمة واحدة ولبث سهراناً حتى الثانية بعد الظهر، عندئذ نام ولم يفق إلا في الثامنة صباحاً.
فارتدى ثيابه وخرج، لمحه في الممر المؤدي إلى الأسفل، رفع كتفه مسلماً، استجاب عائد وهو يدنو إليه: أرجوك اعذرني، ولكن هذا ما حدث، ليست لدي إضافة.
فقال عبد الوهاب: أتمنى لك الشفاء.
- أين ستذهب؟؟
- إلى السوق
- هل ستأخذني معك؟؟؟
- إن شئت فأنا أرغب في المشي في المدينة وقبل ذلك لي رغبة في ترتيب غرفتك، ثم أن ترتدي ثياباً جديدة.
ووافق عائد على الاقتراح وعادا إلى الغرفة، استغرقت عملية الترتيب نحو ساعة ونصف: عادت إلي الرغبة للحياة. قالها عائد وأمسك بيد صديقه وهبط به درج الفندق، هبطا إلى قلب المدينة، وبدأ عائد يقبل على شراء كل شيء وينفق النقود بتبذير كمن يود التخلص منها. ابتاع أربعة بناطيل ومثلها من القمصان الصيفية لي وله ومجموعة هدايا كان يهديها إلى الناس في الطرقات ويقول: لماذا تمنعني من أكون متلافا للحظات فقط في نهاية هذا العمر، ، بل سخياً إن شئت ؟؟ وفي الواقع ما صرفه في ساعتين فاق ما جلبته معي لقضاء أسبوع أضعاف المرات، وربما لو كنت في موقفه لما ترددت من ذلك ورغم هذا فلا أعرف، ولست متأكداً بأنني سأموت قبله أو بعده، فقط هذه اللامعرفية مجدية وكلما زدت جهلاً بها كلما تمسكت بالحياة وكلما زدت علماً بها صرت مثل عائد. هذا الجهل الأعمق يمنحني القدرة على الاتزان وفجأة هتف عائد بطفولة: عبد الوهاب أرجوك انظر ، ذاك الشاب انظر إنه في عمري انظر إلى أناقته، ونظرت إليه قائلاً: ما به يا عائد لقد وعد حبيبته في الحديقة وتأنق لها.
فقال عائد في حزن لن أنساه أبداً: لا أحسده على شيء فقط أحسده لأنه ليس مصاباً بالإيدز.
وانحدرت دموع صادقة من عينيه وبعد قليل وضع ورقة نقدية بفئة خمسمائة ليرة في يد طفلة تمشي مع والدتها، دون أن تراه الوالدة ومشينا وقال مرة أخرى بذات الحزن المؤلم: أرجوك انظر إلى هذه الفتاة الجميلة.
قلت وأنا أنظر: ما بها يا عائد؟؟
ليست مصـ،،،،، ولم تدعه الغصة يكمل .
وبدأ يتصرف كالأطفال، يشتري الألعاب، والدمى، والسكاكر، كل تصرفاته كانت تلفت نظري وكنت أتحاشاها في مواقف وابتعد عنه، وكنت أصر على عدم استيائي في مواجهته، وأردد في سري: سوف يموت غداً.
عدنا إلى الفندق مساءً، دخلنا غرفته واقترح أن نأخذ غرفة بسريرين، فقلت له: كما تريد يا عائد.
استفاق السيد عبد الوهاب في الساعة السابعة صباحاً مد يده إلى سماعة الهاتف وطلب غرفة عائد،عندئذ قلت له بأنني عزمته على وجبة الفطور في محاولة للاعتذار على تركي المفاجئ له ليلة البارحة وبعد نحو ربع ساعة جاء عائد مرتدياً ثيابه، فدخلت الحمام ولدى خروجي قال عائد: أتعرف؟؟
قلت: لا
قال: أحسدك لأنك لست ...
- ومددت يدي إلى شفتيه: أحياناً نتعلم من المرض أكثر من تعلمنا من الشفاء، ويمكن أن نتعلم من المرض في سنة ما لم نتعلمه من الشفاء في ثلاثين سنة.
فقال عائد: دوماً تحسسني بالانتصار حتى وأنا في آخر خطوات الهزيمة والاستسلام.
قلت: ليست المسألة في أن أعيش يوماً وسنة بعدك أو قبلك وفي جميع الأحوال لن نكون بعد سنوات في الحياة هنا قد أخرج الآن وتصطدمني سيارة فأذهب بحادث، عندئذ وفي لحظات الاحتضار قد أحسدك على مرضك لأنه لن يقتلك بعد دقيقة واحدة على الأقل.أقفلت باب الغرفة أودعت المفتاح في لوحة المفاتيح وخرجنا، صار عائد ينط على الدرج كالأطفال، نزلنا إلى قلب العاصمة، اتجهنا إلى الصالحية وإلى / أبو رمانة / 0
قال عائد: أتعرف قبل التعرف إليك كنت أنتظر الموت فقط الآن أحس بأنه يتعثر بخطواته وينتظر ذهابك لينهض ويهرع إلي، لا يمكن للإنسان أن يخسر كل شيء دفعة واحدة،،
قلت: لن أتركك ما رأيك أن تقبل دعوتي لزيارتي في مدينتي وتترك الموت هنا؟
شدته عبارة / تترك الموت هنا / وقال: سأجيء
قلت: أنا مستعد

قال بجدية: وأنا أيضاً، وازداد وجهه تفتحاً.. كل ما فيه بدأ يشرق، إنه في عنفوان الشباب والمراهقة، ويلفت أنظار جميلات الصالحية بقدرة عجيبة ولكنه لا يأبه بهن، كلما يرى شاباً يهتف انظر يا عبد، إنه غير مصاب، ليتني كنته.
وما أقسى وقع هذه العبارة على سمعي، ويكررها بحسرة، وفي نهاية الشارع جلسنا في حديقة صامتة لا أحد فيها، استرخى عائد على الكرسي ولأول مرة تحدث بحكمة وقال وهو لا ينظر إلي: أتعرف يجب أن يصاب كل شخص بالإيدز ثم يشفى ليدرك قيمة عدم إصابته الثرية.
وبعد قليل قال: على كل شخص إذا أراد أن يستوعب الحياة أن يعيش هذا الشعور ثم يشفى، وصمت، نظر إلي، ثم عاد إلى / اللاشيء /
واسترسل: الإيدز خطوة الإنسان الأخيرة لولادة حياة أكثر نضجاً،
وقال: إن الله يحبنا جميعاً ..
ثم دفن وجهه في راحتي كفيه وتمتم كأنما يغني: لا أريد شيئاً سوى أن أحس للحظة واحدة بأنني لست مصاباً أن أعيش هذه اللحظة، متحرراً من هذا الشبح القاتل الذي يزداد ثقلاً على حركتي ورغبتي في العيش، لا أحد بمقدوره أن يتفهم الحياة بقدري في هذا اليوم البائس من حياتي إنني أمقت الإيدز، لو كان رجلا ً لتصديت له، أشعر بسفالته، بمكره مثل الماء الذي يتسرب تحت التبن،ليس بوسع مخلوق على وجه الأرض أن يتعلق بالحياة كالذي داهمه الإيدز الجبان، أنا أفهم تماماً بأنه جبان، وينظر إلى إنجازات البشر بحقد أعمى أكثر من زملائه إنني أعيش الموت لحظة بلحظة يا عبد،، الآخرون ربما ينسون هذا الإحساس المدمر، لأن الموت يبدو على البعد دوماً ولا يذكرهم، أما أنا فأتذكره كلما شاهدت شخصاً بدون إصابة , أعتقد بأن عدد سكاننا يتجاوز ستة عشر مليوناً وإنني واحد فقط من كل هؤلاء، هذا الإحساس يدمرني ويخنقني .الآخرون لايستوعبون هذا الرعب عندما يقولون : سنموت غدا , ولايدرون أي غد يعنون , إنها تخرج على صيغة نكتة , وقد لايعيشون هذا الواقع الأليم إلا لحظات الاحتضار الأخيرة , حتى الطبيب يرفض أن يضعهم في مواجهة رعب كهذا , أما أنا فأعيش حياتي كلها في احتضار دائم وكل يوم يصرخون في وسائل الإعلام وفي الشوارع والملصقات : لن تشفى 0 وتتعالى صيحات التهديد والوعيد وكأنني لست واحدا من بني البشر , وكأنهم بدون خطايا 0 ليتهم جربوا لحظة ألم واحدة من لحظاتي الجحيمية لمزقوا كل هذه الملصقات , ولتحدثوا بشيء من تكاتف إنساني 0 مع هذا اليأس0 أواصل حياتي وأعيش هذه الوخزات الروحية المؤلمة أياما متلاحقة لاتنتهي وأتمسك بها لتمكنني من العيش , وكلما تحققت أمنيتي في العيش أياما أخرى انتشر المرض في حواسي واحتل كل ذرة من جسدي0
كنت أتصور عودتي إلى قريتي الطيبة , وإلى أخوتي الصغار الذين ولدوا ولم أرهم بعد , ولا أعرف ملامحهم , قريتي أعظم من كل تلك البلاد , لا لن أرجع إليها حاملا الموت , لن أحمل إليها الدمار , كان علي أن أعود سليما مثلما خرجت , وأحمل إليها الحياة 0 أفضّل البقاء هنا , الموت هنا , وأحيانا أفكر بالانتحار في ظروف غامضة حتى لاينكشف مرضي , لقد مات كل شيء بالنسبة إلي , غربت شمسي في أولى إشراقتها ولن تشرق ثانية 0 وتغير لون عائد , ركبه شبح الموت , ماتت الحياة في نبرات صوته الخافتة التي بدت لي الأخيرة التي تصدر منه , وصار ينظر إلي ببؤس العالم : / أنا والحياة كلانا أخذ حقه من الآخر / 0 لن أستمع إلى موسيقاكم بعد الآن , لن أغني , لن أرتدي ثيابا جديدة , لن أرى خيوط الشمس الأولى , سارتمي في ظلمة أبدية ولايزور قبري أحد , لاأحد يزرع وردة , ولا أحد يتمهل للحظة واحدة بجانبي , هناك عندما تسلبني الحياة كل شيء , حتى هذه الأنفاس المتبقية الميتة 0 لن أضيف كلمة أخرى , أشعر بصداع في رأسي يفقدني كل لحظة توازن , هل ستأخذني إلى الفندق , أرجوك لاأريد أن أموت في الشارع , أريد أن يحدث ذلك وأنا بمفردي , أن يحدث ذلك بخفية تامة وأنا ممدد على سرير الموت دون أن يكون بوسع أحد أن يصوب النظرة الأخيرة إلى موتي 0 وأخذت عائد إلى الفندق والدموع تملأ عيني , إنه في أبأس لحظات حياته , لم يسبق لي أن شاهدت مبلغ هذا البؤس لدى مخلوق 0 وصلنا الفندق بسيارة وكأنها سيارة إسعاف , دخلنا غرفته , لم أتركه , كنت خائفا عليه , واستلقيت إلى جانبه في سريره حتى الصباح 0 استفقت رأيته نائما ولكن ملامح وجهه بدت هادئة مسترخية , وبعد قليل فتح عينيه عندما تركت السرير , ابتسم لي وصار يقبلني بحرارة أشد من حرارة ظهيرات تموز 0 همست له : انظر ياعائد , هناك من لايظفر سوى بسنتين من الحياة , ومن لايظفر سوى بشهرين , أنت ظفرت بخمس وعشرين سنة مجانية بدون مقابل , أي شيء آخر تريد , لنفرض أنك مت منذ ثلاث سنوات , أو أنك ستموت بعد عشرة أيام , ما الجديد في الأمر , يكون الأمر مؤلما عندما يترك المرء الحياة ويدرك أن هناك من لا يموت , الموت هومصبنا جميعا , وفي لحظة الموت يتساوى معك من عاش مائة سنة , يمكن لك أن تكتشف الحياة كلها في سنة واحدة من سنوات عمرك ما لم يكتشفها من عاش مائة سنة 0
خرجت هذه العبارات من فم السيد عبد الوهاب وهي محاولات أخيرة لتهدئة صديقه , وقد استجاب لبعضها , واقترح عليه السهر الليلة حتى الصباح في إحدى النوادي الليلية , وفي أمسية لن ينساها اتجها إلى ناد على نهر بردى , جلسا على مائدة عامرة تحت الأشجار واتفقا أن العمر كله كان تمهيدا لهذه الليلة وأما ما يأتي بعدها فلايهم إن طال أو قصر 0 أجل أيها السيد سأروي لك مرة أخرى وقائع إجازتي 0 لقد رجعنا إلى الفندق في الخامسة صباحا , , واستفقنا في الثانية ظهرا , كان عائد
في قمة توهجه وعشقه للحياة ويدندن بأغنيات دافئة فقلت له : لقد أمضيت عشرة أيام معك هل تسمح لي بالعودة ؟
وفجأة عانقني وصرخ بهستيريا : أرجوك لاتتركني 0
قلت : لنسافر معا 0
قال : فيما بعد , أنت لست مرتبطا بوظيفة , لايهمك 0 فقلت ولاأدري كيف خرجت العبارة من فمي : ياعائد قد لاتكون مصابا 0
قال : هذا مستحيل , المرض ينتقل عبر الاتصال , وهي كانت زوجتي على سنة الله ورسوله .
قلت : انه احتمال , ما رأيك بالتحليل ؟
قال : هذا هذيان
قلت : لن نخسر شيئا أرجوك 00 ووافق مكرها 0 دخلنا المشفى الخاص وشرحنا الأمر للطبيب الذي غرز إبرة في ساعد عائد , سحب قليلا من دم وطلب أن نراجعه بعد يومين ليخبرنا بالنتيجة 0
وطوال هذين اليومين عاش عائد في توتر وأحيانا لاينام ساعة واحدة وهو يعد الساعات الذاهبة والساعات المتبقية , أجل كان يعد الساعات ساعة , وعندما جاء الموعد , لم يأت , طلب إلي الذهاب بمفردي وجلب النتيجة , ولست أدري أي احتمالات كان يضع , ولماذا قرر الخروج من الفندق معي , وعندما قلت له : أين ستذهب خلال هذه الساعة ؟ لم يجبني , واكتفى بإعلامي أننا ستلتقي في الفندق لدى عودتي 0 سلّمت على الطبيب وطلبت منه النتيجة فأحضرها وناولها لي قائلا : لديك فقر دم 00 وقبل أن يكمل قلت : لست أنا ,إنه صديقي 0 فقال : آ سف لم أعد أذكر , ثم أردف وهو ينظر في نتيجة التحاليل ويناولها ليدي : ونسبة السكر قليلة في دمه , أنصحه بتناول الكاتو والكليجة بدلا عن الخبز لبضعة أيام 0 قلت : ألا يوجد إيدز ؟ فنظر إلي قائلا : قلت لك كل شيء 00هل سمعتني بما تقول ؟ قلت : لا ولكن أريدك أن تقولها , أن تلفظها حتى يطمئن قلبي 0 قال : لايوجد ماتقول 0 سحبت نتيجة التحاليل من يده بفرح طفولي غامر وهرعت صوب الفندق ركضا وأنا أظن أن أي وسيلة نقل لن تكون أسرع مني , رأيت عائد متوترا في انتظاري وما إن رآني حتى انتصب واقفا : هـه اخبرنـي
قلت : دعني أسترد أنفاسي ,
قال : هل أعطاك النتيجة ؟
قلت : أجـل أصبر قليلا
قال : قلها , أرجو ك
قلت وقد نهضت بعد لحظات من جلوس : أنت لست مصابا يا عائد , بإمكانك الآن أن تعيش شعور الغير مصاب 0 علاه اصفرار بع** ماتوقعت , وبعد قليل مد كفه إلى الجهة اليسرى من صدره وضغط بقوة وقد احتقن وجهه بصورة غريبة , ثم ببطء شديد رمى جسده علي 00 قلت : عائد مبروك 0 وأحسستُ بثقل غير عادي لجسده , تراجعت إلى الخلف خطوة , وسقط عائد على الأرض دون حراك , صحت به ولم يرد , أعلمت صاحب الفندق , وبعد قليل جاءت سيارة الإسعاف وأخذته جثة هامدة 0 في نفس اليوم أعددت حقائبي , تركت الثياب التي اشتراها لي عائد , واتجهت إلى محطة القطار وأنا ألتفت خلفي وأتوقع أن يأتيني صوته من نافذة غرفته في ذاك الفندق الضخم 0



مع التحيات/ يوسف غياث
 
اسم الموضوع : الإيـدز | المصدر : القصة والرواية

جواد البحر

مراقب سابق
إنضم
10 مايو 2008
المشاركات
5,088
مستوى التفاعل
0
[align=center]
492-AlSalam.gif


hkd83023.gif


جواد البحر
F_017.gif

[/align]
 
أعلى