يوسف مكاوي

:: عضو نشيط ::
إنضم
22 فبراير 2008
المشاركات
827
مستوى التفاعل
0
الإقامة
الإنترنت
الحلقـة الأولــــــــى

توالت طرقات خافتة متلاحقة على الباب، فكرت للحظات في مَنْ يمكن أن يزورني في الثامنة من صبيحة يوم الجمعة، هل حدث طارئ في القرية وجاء أحد أخوتي لإعلامي؟
وتتابعت الطرقات الخافتة للمرة الثانية , نفضتُ يدَي من رغوة الصابون مسحتهما بالثياب التي أغسلها ووقفتُ أمام الباب مددتُ كفي إلى المفتاح وتذكرت قول أمي : لا تفتحي الباب قبل أن تتأكدي من معرفة الذي يقف خلفه . قلت : مَنْ ؟ ويدي تكاد تدير المفتاح . ولم يرد جواب : مَـنْ ؟ .
خرجت الكلمة من فمي بصوت مرتفع كصدى , وتناهت طرقة واحدة هذه المرة لتؤكد بأن الطارق ما زال واقفاً، فتحتُ الباب بشيء من السرعة وكأني أريد أن أخلعه من مكانه ، وقع نظري على وجه يميل إلى السمرة لامرأة قصيرة بعض الشيء في عشرينات العمر ترتدي ثيابا رثة تمد كفها إليَّ وقد سبقها صوتها كأنين : من مال الله .. لا تخجليني الله يحفظ شبابك .
ولفت نظري كيس الخيش المعلق بكتفها على طريقة حقائب الجنود السفرية.
إنها امرأة , ولكن أي امرأة , إنها لاتشبه النساء , لقد أفقدها هذا المنظر المدقع كل لون من ألوان المرأة . قلت بنبرة كلها شفقة وعطف وقد أوشكتْ دموع أن تنزل من عيني : ماذا تريدين..؟
لبثت صامتة تنظر إلي ولم ترد ، انتابني شعور سريع بأنني ربما جرحتها بنظراتي أو بنبرات صوتي وأنا أسألها عما تريد وكان من المفترض أن أقدم لها ما أستطيع عليه دون تلك النظرات وتلك النبرة . أردت أن أخفف عنها هذا الشعور بالحرج وأعدل ما وقعت فيه من خطأ فقلت : أقصد لا أعرف ماذا أعطيك , يوجد خبز أتريدين رغيفاً.. تفاح.. بندورة.. خيار.. هذا كل شيء .
قالت وقد استردت نظراتها الطبيعية إلي : أعطني ما تشائين ياسيدتي .
تراجعت إلى الوراء واتجهتُ إلى البراد , سحبتُ رغيفاً من الخبز وتفاحة وبندورتين.. ولمّا استدرت رأيتها دخلتْ في فم الباب وهي تفتح كيسها ، وضعتُ ما بيدي في فم الكيس ، ثم عدتُ مرة أخرى إلى الخلف , مددت يدي إلى حقيبتي الصغيرة وناولتها ورقة نقدية بفئة الخمس ليرات.
مدتْ كفها تأخذ الورقة النقدية و أجالت بنظرها في الشقة ثم مالبثت أن تمتمت وهي تنظر إلى الثياب المرمية على الأرض جانب طشت الغسيل : أأنت طالبة؟
قلت: لا.. بيتنا في القرية، وأنا مستأجرة هذه الشقة لعملي في المدينة . هذا هو الحل الوحيد لأعيل أسرتي , أنا معلمة مدرسة ولم أجد تعيينا في قريتي .
قالت : اليوم عطلة، لماذا لم تذهبي القرية .
قلت : أحب أن أبقى يوم العطلة في البيت
فقالت : هل تريدين أن أغسلها لك؟
نظرتُ إليها ولم يكن بوسعي أن أرد على الفور , لكنها أردفت بشيء من إلحاح :
هل تظنين بأنني لن أنظفها , لاتخافي , سأنظفها أكثر من غسّالة , وستعطينني تعبي , أحيانا أغسل ثياب عائلة كاملة في بعض البيوت , لقد تدربت على ذلك .
قلت وصوتي يرتعش : كم تريدين ؟
قالت : الذي يطلع من خاطرك أنا راضية به .
وهنا اعتراني ذات الشعور الذي ربما اعتراها أول الأمر , أو لعلها أرادت أن ترد على ذات الشعور الذي سببته لها , فها هي تريد أن تشفق بي وهي تنظر نظرات شفقة وعطف إلى فتاة تقف أما م طشت غسيل وكان من المفترض أن تكون ثمة غسّالة تيسر عليها عملية الغسيل 0 فقلت : لا لا لاأقبل بذلك , لنتفق على الأجر أولا .
قالت وقد علت بسمة شفقة مرة أخرى على ثغرها : كم ستعطينني ؟
كم , أعدت السؤال في خاطري مرات عديدة ثم قلت بعد صمت لم يطل وأنا أنظر إلى كومة الثياب : سأعطيك خمسين ليرة حلالا وزلالا .
قالت : ألا تريد ين أن تزيدي شيئا ؟
قلت: العملية كلها لا تستغرق نصف ساعة , خمسون ليرة بالجهد أفضل من خمسمئة ليرة دون جهد .
قالت بشيء من الانفعال وقد وضعت الكيس على الكنبة مستعدة للغسيل : أنت مصرة أن تجرحيني كل مرة بكلامك ، لكن لأبتلع هذه أيضا , موافقة أعطني .
فتحتُ حقيبتي مرة ثانية ولم أجد غير فئة المائة ليرة عندئذ قلت: ألديك رجوع ؟ وأبرزتُ الورقة النقدية الزرقاء. فمدتْ أصابعها إلى طرف المحرمة التي تغطي شعرها وبسرعة فائقة فكّتْ عقدة وبدأت تناولني أوراقاً بفئتَي الخمس والعشر ليرات، وتناولتْ من يدي المائة ليرة وعقدتْ عليها طرف المحرمة، ثم باشرت في الغسيل.
استلقيتُ على الكنبة أتابع برامج يوم الجمعة في التلفزيون، قاطعتني: ألا يوجد لديك حمام للغسيل ,
قلت : يوجد , لكن اعتدت الغسيل في الصالون حتى أغسل وأنظر إلى التلفزيون ولا أحس بالوقت 0
بعد قليل تمتمت وهي تنظر في الثياب التي تغسلها: لماذا لا تتزوجين .. الرجل هوحياة المرأة ؟.
- عندما يأتي الوقت المناسب سأتزوج . أجبت وأنا أتابع النظر في التلفاز 0
قالت ببسمة وقد رفعتْ وجهها الشاحب إليَّ ومسحتْ أنفها بكم جلبابها الأخضر: الوقت المناسب , كلهن يقلن ذلك ؟.
نهضتُ إلى التلفزيون .. بحثتُ في المحطات الأرضية , لم أجد ما يعجبني فتركته على أغنية تركية في المحطة التركية الثانية وعدتُ إلى الجلوس.
لم تكرر السؤال , وبعد قليل قالت : أين أنظف الثياب ؟
فقلت : على المغسلة في الحمام .. فحملتْ الثياب في الطشت البلاستيكي على رأسها وغابت نحو عشر دقائق . ثم اتجهت معها لتنشر الغسيل على البلكون .
تركتها وعدتُ إلى الغرفة لفتَ الكيس نظري، فمددتُ يدي إليه وفتحته.. ألقيت بنظرة فاحصة في المحتويات : برغل.. تظهر حبات رز بينه , وكيس يحتوي على نحو نصف كيلو من السكر , وآخر على حفنة شاي حجازي أحمر اللون , **رات خبز , حبات خضار موسمية رخيصة.. وسمعتُ وقع خطواتها أعدت إغلاق الكيس بواسطة جر الحبل المطاطي الأبيض. وشردتُ في هذا اللون من العيش على فضلات الآخرين , إنه شكل خاص بهم ولو عرفتُ هذه الفلسفة لعرفتُ المزيد , لا أستطيع أن أحكم على الشكل ولماذا لا يكون هذا النمط من العيش أكثر صواباً ؟
دخلتْ الصالون ناولتها البشكير فالتقطتها بخجل وبدأت تمسح يديها وتتأهب للخروج : لماذا مستعجلة ؟
- لألتقط رزقي أنا فقيرة بائسة معدومة ألا تشفق عليَّ ؟
وتأملتُ ثيابها البالية المتسخة مرة أخرى فصدرت منها رائحة نتنة . رفعتُ نظري إلى وجهها ووقعتُ عيناي على حجم الغبار ومن تحت المحرمة لمحتُ قيراطاً في أذنيها فأعلمتني بأنه الوحيد الذي تلقته يوم زفافها منذ ما يقارب ســنة .
ألححت عليها أن تتناول طعام الإفطار , بيد أنها رفضتْ بعناد ولم تمد يدها إلى **رة خبز .
ثم تناولتْ كتاباً وهي تتمتم لنفسها : ليتني دخلت المدرسة،، منذ طفولتي كانت أمي تأخذني معها إلى البيوت وتعلمني طرق التسول: يا بنتي لا تفقدي الأمل في أحد،، الشاطرة هي التي لا تترك أحداً إلاّ وتأخذ منه قسمتها ، غداً ستكونين مثل أمك لن يتزوجك طبيب , هذا هو مستقبلنا.
وفي السنة الماضية عندما تزوجتُ غجرياً عرفت بأن البنت لن ترضى عن نفسها إلاّ عندما تنجح في أن تكون صورة طبق الأصل عن أمها. ولما منعني زوجي من التسول، وأراد أن يقعدني في البيت خيّرته أن يطلقني أو يدعني أكون نسخة عن أمي .
- ألستَ غجريا يا بن الغجر هل خفتْ عليك طباعنا ألم تعرف أمي ، أنا اعتدتُ طرق أبواب البيوت هذه هي حياتي مثل حياة أمك وأخوتك , وأمي وأخوتي وكل هذه البيوت لماذا تريدني أن أكون شاذة ؟.
- سأعمل في صناعة الأسنان وأ**ب كثيراً .
- كلهم يعملون مثلك ولا يمنعون زوجاتهم.
فصمتَ زوجي وعلى الفور رويت له حكاية المرأة الغجرية التي تزوجت ثرياً من غير الغجر وكانت جميلة ساحرة - كما تقولون أنتم - : "لو كانت غير غجرية لارتفع مهرها إلى مليون ليرة وتقدم إليها ألف شاب".
فوقع رجل ثري من المدينة في حبها عندما رآها تتسول مع رفيقات لها وتتبّع خطواتها إلى أن دخلت خيمتها , عندئذ جاء يطلبها واشترط أن تتوقف عن التسول فوافقتْ على شرطه ووافق أهلها فـتـزوجا وأسكنها في قصره الكبير , وفـّر لها كل ما تشتهيه من ثياب وطعام وأموال وخدم , وكان يخرج في الصباح إلى عمله ويعود ظهراً، يحظّر عليها الخروج من القصر, وذات يوم قصد أن يعود مبكراً خلسة إلى البيت لينظر إلى زوجته في وقت فراغها , فدخل قصره وتقدم إلى غرفتها , مدّ رأسه إلى النافذة فرآها وقد علّقتْ كيساً من الخيش على كتفيها ووزعتْ في كل ركن كاسات وصحوناً من السكر والبرغل والرز والشاي و**رات خبز وقطع نقود معدنية , وكلما تقترب من ركن تمد يدها قائلة : من مال الله 00 ثم تتناول ماتقع عليه يدها وتفرغه في كيسها وتتجه إلى الركن الآخر حتى يمتلئ الكيس وتتمتم لنفسها : يالها من ذكريات رائعة تفوق سعادتها سعادة كل مالدي في هذا البيت الطويل العريض , كم أحسد الآن قريباتي اللواتي يطفن في الطرقات ويقرعن البيوت , يالهن من محظوظات بتلك الحرية الغجرية الثمينة التي أفقدني إياها بعلي .
وأقنعتُ زوجي بأنه لا يستطيع أن يمنعني من هذه العادة فصنعنا خيمة خاصة بنا وانفصلنا عن خيمة أهله.
ونهضتْ معلنة عن تأخرها وقد مسحتْ يديها بجلبابها : لا أستطيع أن أجلس في البيت ثلاثة أيام متواصلة حتى في الأعياد
- وأين تسكنين الآن ؟.
قالت وقد حملتْ الكيس : نحن غجر "رأس العين" نأتي إلى الحسكة مع بداية الصيف نلملم رزقنا ونعود إلى بيوتنا مع بداية فصل الشتاء.
وأعلمتني عن موقع خيمتها وترجتني أن أزورها في الوقت الذي أشاء من بعد الظهر.
وقالت بأن زوجها يعمل في صناعة الأسنان بشكل متقطع ولديه دراجة نارية نوع / ستار / ذات عجلتين يلاحق عمله بواسطتها.
وعند العتبة قلت لها: هل ستأتين كل يوم جمعة لغسل الثياب ؟.
قالت: إن أعطيتني ما طلبته أولاً .
قلت: سأعطيكِ .
خرجت هذه المرأة من البيت ولكنها دخلت مكاناً أقرب , شعرت براحة هائلة معها وأنها سوف تكون صديقة لي تؤنسني في وحشة غربتي عن أهلي . غابت وتركت بصمات صوتها تشتعل في شجرة الذاكرة، ما يشدني إليها بصورة عجيبة هو تلقائيتهاوطفوليتها وعفويتها وعدم تصنعها الكلام, الصدق الطفولي , فطرية الإنسان الأولى , وحتى الصوت يا إلهي وربما اللمسات الغجرية العريقة التي خلفتها في البيت 0 نسيتُ أن أسألها عن اسمها, كيف استطاعت أن تقيم كل هذا الطوفان في فسحة النفس الضيقة, وعددتُ على أصابعي : السبت الأحد الاثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس ستة أيام أخرى وفي اليوم السابع ستجيء كاليوم تماماً, كاللحظة ستكون هنا كاللحظة أين هي تلك اللحظة ياه كم تبدو بعيدة.. بعيدة تبدو كالمستحيل الذي لا يتحقق هل ستحل تلك اللحظة,, لحظة الدخول المباغت , وهل سيحظى سمعي مرة أخرى بتلك الطرقات الغجرية الخافتة ؟!.
يوم الجمعة القادم ولحظة الدخول الأولى , وعلى الفور وقبل أن تضع كيسها المصنوع من الخيش على الكنبة قلت: ما اسمكِ ؟
قالت بابتسامة وهي تنظر إلى وجهي بتلقائيتها المحببة : ولِمَ تريدين أن تعرفي اسمي ؟
قلـت : لأناديك بــــه
قالـــــت : قولي لــي : ســما ح , هذا هو اسمــي
قلت: هل تشربين الحليب ؟.
أخفضت رأسها بالإيجاب وتمتمت : إنه جيد للمعدة لكن لا يوجد في الخيمة غير الخبز اليابس والشاي صباحاً, هل تشربيه كل صباح ؟
قلت: أنا فقيرة لا شيء لدي في هذه المدينة غير راتبي في التعليم .
مدت يدها إلى قطعة جبن وتناولتها مع الرشفة الأخيرة من كأس الحليب ونهضتْ سخنت الماء وأفرغت فيه المسحوق ثم قذفتْ الثياب الداخلية البيضاء في الماء المغلي وبدأت تغسل الثياب الخارجية المتراكمة على الأرض .
أشغلتُ التلفزيون واستلقيت على الكنبة أشاهد بعض البرامج .
قالت: كم الساعة ؟.
قلت: انظري إلى الساعة الكبيرة فوق التلفزيون، نظرت إليها وعادتْ تنظر إليَّ فعرفتُ من نظرتها بأنها لم تعرف, عندئذ قلتُ لها: سماح ما رأيكِ بساعة ؟.
قالت: لكنني لا أفهمها.
قلت: سأعلمك ِ.
وبدأت أشير إلى العقارب.. الساعات.. الدقائق.. الثواني.. وعرفتُ بأنها لا تفقه الأوقات فهي لا تعرف أي ساعة يكون الصباح.. فقسمّتُ لها الساعات على أوقات اليوم , هذا الفصل ساعات بداية النهار /الصباح/ تبدأ من السادسة وتنتهي عند نهاية العاشرة.. وبعد ذلك يأتي الظهر حتى الرابعة.. ويبدأ العصر.. حتى السابعة.. حيث يبدأ الغروب حتى التاسعة.
والآن متى تعودين إلى البيت كالعادة.
قالت: بعد أن يؤذن الظهر بقليل .
قلت: لنفترض أنك في مكان بعيد عن صوت المؤذن كم الساعة ستعودين ؟.
قالت: لا أعرف.

وعرفتُ بأنني سأجد صعوبة كبرى في تعليمها ولكن سأفعل شيئاً , أشعر بأنني أقوم بعمل إنساني , هي تعينيني، وأنا سأعينها لن أهدر كل عمري من أجلها سأمنحها ساعة واحدة في الأسبوع الساعة التي أكون فيها في البيت يوم العطلة, وبعدها سأعلّمها القراءة إنها ما تزال في بداية العمر 0
وفكرت بأن أكون على حذر شديد في مهمتي وهي تجربة واقعية تعني لي الكثير, إنها لا تعرف شيئاً وسأصنعها , إنها مثل إحدى طالباتي , أعلمها كل شيء وسأتابع نتائج عملي وهي مهيأة لاستقبال كل خطواتي في لا شعورها , طفلة في العشرين لا تعرف العد ولا المعدود لا تعرف الموسيقى لا تجيد القراءة لا تدرك الفن التشكيلي لم تدخل المسرح لا تعرف شيئاً عن تاريخ العالم الحديث ولا القديم لا تعرف ما يجري الآن وما جرى في السابق.
وأي طفولة أبعد من هذا..؟ حتى الكلام أحياناً تتعثر ببعضه 0
أخذتْ الثياب المغسولة إلى المغسلة ،، وبعد قليل نشرتها على حبل الغسيل . ولما عادت , ناولتها مئة ليرة ثم ملأت كيسها بالخضار والفواكه والخبز وتذكرتُ ما بقي من سكر العيد فمددتُ يدي إليه وناولتها : هذه هدية.. قلت لها: يا سماح مارأيك أن تتعلمي القراءة في الزيارات القادمة.
- لا أريد أن يكبر عقلي دعه صغيراً.
- لماذا ؟.
- لأن العقول الكبيرة يجب أن تكون للرجال المرأة عندما يكبر عقلها تتحول إلى رجل دون أن تدري ، وعندما تتحول إلى رجل يرفضها الرجل ، لأنه يريدها امرأة لذلك فأغلبهن لا يتزوجن 0 أعرف الكثيرات منهن وقد بلغن الأربعين أنا تزوجتُ قبل العشرين. أنا لا أعرف شيئاً ولكن لم أترك باباً إلا وطرقته لا يوجد في هذه المدينة من طرق أبواباً بقدري , خلف كل باب يكمن سر والغجرية الماهرة هي التي تكتشف هذا السر وتتعلم منه حكمة ، إننا لا نأخذ النقود فقط بل نأخذ الأسرار والحكم معها.. أنا أعرف أسرار البيوت أكثر من أصحابها , وعندما ألمح أي شخص في الطريق أعرف بيته وأعرف طباعه وعمله وحالته الاجتماعية لذلك أنا متعلقة بعملي ولا أتصور بأنني سأتركه وإن حدث وتركته فإنه سيكون اليوم الأخير في حياتي إنني أحب عملي ومتعلقة به أكثر من تعلقي بأي شيء آخر في حياتي 0
الحلقــــة الثانيــــــة

- سماح،، هل ستأتين كل يوم جمعة؟.
- نعم ، والله سأجيء.
- أخاف أن تخلفي .
- إذا أخلف كل الناس عهودهم، فإن الغجرية ستفي به.. وإذا خان الناس كلهم.. فإن الغجرية ستبقى مخلصة إن أرادتْ. ليس بمقدورك أن تعثري على إنسان عنيد في إخلاصه بقدر المرأة الغجرية إذا أرادت أن تكون مخلصة .
- هل تجيدين الغناء؟
- أجيده بلغة العصفور , وهي لغتنا الخالدة التي تميزنا , لغة الغجر التي هي قريبة من زقزقة العصافير , وكذلك لأننا نبقى متنقلين كالعصافير 0 عندما تتحدث الغجرية بلغتها تشعر بأنك أمام عصفورة 0
وغنت أغنية باللغة الغجرية بصوتها الشجي العذب : " أنا البنت الغجرية أيتها الصديقة , أنا عاشقة الحرية الأزلية "
وأنا أقوم بتسجيلها على / كاسيت /
: هل تتركيني الآن أنصرف؟ جاء صوتها الغير مسموع .
: كما تشائين .
: كم الساعة
: الواحدة .
: ألن تذهبي إلى القرية يوم الجمعة القادم .
: لن أذهب ما دمتِ تأتين أيتها الأخت العزيزة التي تعلمني الكثير في مدرسة الحياة .


اعتدت على هذه الزيارات , بل أصبحت جزءا مني , ومن الطرف الآخر فهي لاتغيب عن مواعيدها وتقول بأنها أيضا اعتادت على رؤيتي ولاتتصور أنها ستغيب عني حتى في أسوأ الظروف 0
فور دخولها أخرجتْ حقيبة صغيرة قالت: رأيت هذه الحقيبة على الأرض بجانب الكراج . وفَتَحَتها ظهرتْ حزمة نقود مع إجازة سوق خاصة وبطاقة شخصية وبطاقة استخدام هاتف ودفتر صغير يحتوي على أرقام هواتف.
عددنا النقود المرصوصة بمطاط رفيع بني اللون وكلها من ذوات الخمسمائة ليرة وكان المبلغ كبيراً قلت لسماح : ماذا ستفعلين؟
قالت: لا أعرف
قلتُ: لو كنتُ أنا لأعدت الحقيبة كما هي إلى صاحبها.
قالت: لكنها سقطت منه وأنا وجدتها.
قلت: لكنه الآن مضطرب عليها وربما لا ينام وأنت تستطيعين أن تعيديها إليه دون أن تخسري شيئا 0
قالت : لن أعيدها .
= أنا أقول رأيي وأنت تقولين رأيكِ لك حرية ما ترين .
= ولكن كيف سأعيدها .
= أن تصلي إلى قناعة أنك لابد أن تعيديها إليه لأنه صاحبها وقد سقطت منه سهوا ووقعت في يديك , وأن قلبه الآن يرتعش في هذه الحقيبة , ألا تريدين أن أن تعيدي إليه قلبه 0
= من يعيد خمسين ألف ليرة بعد أن صارت له
= الذي يرى قلب صاحبها يرتعش بين يديه مع تلك الأوراق
= ولكنني وجدتها .
= وهو أضاعها
= خذ أنتِ أعيديها 0
وبكت وهي تقذف الحقيبة كأنما تقذف عقب سيجارة قائلة : أنتِ تريدين أن تجرديني من طبيعتي حياتنا ليست معقدة هكذا نحن لا نهتم بهذه المسائل ففي النهاية سيغفر الله للبؤساء والعراة والمتسولين يمكن لي أن أخطف رغيفاً من المخبز أو أسرق غرضاً أنا بحاجة إليه مثل حذاء من محل فيه مئات الأحذية وأكون حافية نحن بسطاء فصاحب المحل لن يجوع بسبب حذاء والبيت الذي أسرق منه إبريقاً للماء ربما لا يستخدم ذاك الإبريق في السنة مرة , ألن تجد صعوبة في إعادتها
= لا لأن عنوانه موجود على بطاقته ورقم هاتفه مكتوب على شهادة السواقة .
في الجمعة القادمة عندما دخلت سماح , فوجئت برجل لأول مرة معي في البيت , نظرت إليه نظرة سريعة , وتراجعت , صحتُ بها : سماح , ادخلي , إنه صاحب الحقيبة . عادت بعد أن كانت قد خظت عدة خطوات نحو الرجوع , صوبت نظرة إلي , ثم نظرت إلى الرجل مرة أخرى فقلت للرجل : هذه المرأة هي التي وجدت الحقيبة 0 ثم ناولت الحقيبة ليد سماح , فتناولتها من يدي ومدتها على الفور ليد الرجل الذي شكرها وفتحها , ثم نظر في محتواها وسحب عدة أوراق , مدها لسماح , لكنها رفضت قائلة : لا , لاأريد .
قال : أعطيك هذا من طيب نفسي
قالت : أنا من طيب نفسي أقول لك بأنني أعدتها من أجل أن أعيدها وليس من أجل أن أقبض مقابل إعادتها 0



مع التحيات/ يوسف غياث
 

جواد البحر

مراقب سابق
إنضم
10 مايو 2008
المشاركات
5,088
مستوى التفاعل
0
[align=center]
492-AlSalam.gif


hkd83023.gif


جواد البحر
F_017.gif

[/align]
 

MYMO

:: عضو نشيط ::
إنضم
7 نوفمبر 2008
المشاركات
546
مستوى التفاعل
0
الله يعطيك العافيه اخوي يوسف
ولك احترامي
 
أعلى