يوسف مكاوي

:: عضو نشيط ::
إنضم
22 فبراير 2008
المشاركات
827
مستوى التفاعل
0
الإقامة
الإنترنت
الفصل الأول

ـ وكان كالخناق، يغلق المعابر، يطفئ الأضواء، ثم يبدأ تعزيمه لإخراج مافسد من الروح.‏

ـ وكان شللاً نصفياً، العقل جامد في حضرته، والبدن مقيد بأرض مقيتة، وعالم فان، لايشبه سوى الماخور.‏

ـ وكان، في مرات عديدة، ينهض فيقرأ آيات من القرآن، ويعود ليجلس ساكناً، ثم يهبط بوجهه على الأرض، يدعو الله أن يغفر الخطأ الذي يرتكبه الجاهلون.‏

ـ وكان يرى الحلاج في منامه، فينهض مردداً: رأيت ربي بعين قلبي، ويظل أياماً ينادي: أنا الحق، أنا الحق.‏

ـ وكان يدق أبواب البيوت الكبيرة بعصاه، وهو يصرخ: الملك لي، الملك لي.‏

أمضى الشيخ سنتين في السجن، وقيل خلال هاتين السنتين كان جسده نائماً، وروحه مسافرة، وحين سئل عن هذا قال: أمات الله جسدي، وجعل روحي يدعو الناس قاطعاً البلاد، إلى وحدانيته جل جلاله وقال بأنه أمضى السنتين متنقلاً بين الصين وبين الهند، واختلف الكثيرون حول سبب سجنه، فمنهم من يقول: بينما كان الشيخ جالساً في إحدى الحضرات، فاجأه الهيام الإلهي، فأغلق عقله وجمد عينيه على السقف، فاندفع وحمل سيفاً، ضرب به رجلاً من الحاضرين، فتدفق الدم من بطن الرجل غزيراً.‏

اعتقل الشيخ، وأودع السجن، ولو أن الرجل مبقور البطن مات لأعدموا الشيخ، لكن الرجل لم يمت، بل تقطعت مصارينه، فاضطر الأطباء إلى تركيب مصران *** له بدلاً عن أحد مصارينه ويقولون إن عضة ذلك الرجل صارت تسبب ال***.‏

ومما قيل عن حبس الشيخ أيضاً: انه شوهد يعبر الحدود الفاصلة بين سوريا وبين الأردن دون تصريح عبور، وحين أوقفه حرس الحدود، انفجر غاضباً، وشتمهم، فضربوه، واعتقلوه، ثم وضعوه في السجن.‏

أما عمره فلا عمر له، الجميع، كباراً وصغاراً، يعرفونه على هذه الصورة، لم يتغير إطلاقاً، وهو يغيب عن البلد كثيراً ويأتي بعدها يحكي الحكايات المذهلة عن أسفاره، أكد الكثيرون أنهم شاهدوه يتنقل في باريس، وروما، وبراغ، وقال أحد الشباب ان الشيخ أعطاه نقوداً في براغ لأنه كان مفلساً حين كان يدرس الهندسة هناك.‏

وذهب بعضهم إلى أبعد من هذا حين زعموا بأن الشيخ شوهد مرة يصافح المهاتما غاندي، وقد صام معه عشرة أيام. وسار معه في طريقه إلى الملح.‏

لم يكن الشيخ يأكل غير التمر واللبن. وحينما يسأله الناس عن هذا يقول: مافائدة أطايب الطعام لجسد فان؟ وعندما يقال له: إن لبدنك عليك حقاً، يقول ببرود: بدني سليم أقوى من أبدانكم، وأستطيع اجتياز الصحارى الشاسعة سيراً على قدمي، الله أعطاني عظاماً من حديد وزودني بصبر ثلاثين جملاً.‏

اعتاد الناس رؤيته يلبس كلابية بنية اللون، ويضع على رأسه كوفية بيضاء، منقطة بالأخضر، على كتفه زوادة لم يعرف أحد ماتحوي، بيده اليمنى قرآن، وأما يده اليسرى فتشغلها عصا طويلة. قال بأنها مباركة لأنه جلبها من شجرة في بيت المقدس.‏

ألفته الأزقة الضيقة في كل المدن، واعتادته الحارات المظلمة، كانت عصاه المباركة تدق الأرض أثناء تجواله ليلاً بين البيوت، محدثة الرهبة من قدومه، ومن عاداته المعروفة أنه يصعد أسطحة المنازل مطارداً القطط في ليالي شهر شباط كي يقطع نسلها، لأن القطط، كما يقول بنات إبليس، وإذا ماتت توقف إبليس عن وسوسته في القلوب الضعيفة. وقد تسبب ظهور الشيخ المفاجئ في بعض البيوت في إجهاض إمرأتين، وإصابة الحاجة مريم بالجلطة القلبية ووفاتها فيما بعد.‏

لم يره أحد يخاطب النساء، وإن خاطبنه، وكان يردد: من خلقهن ربهن من ضلع أعوج، يقدن المرء وإن كان صالحاً، إلى الاعوجاج. كانت غرفته الصغيرة معزولة في طرف بعيد من المدينة، قرب بساتين البرغوث، تفوح منها روائح البخور، ولاتدخلها الكهرباء لأنها رجس من عمل الشيطان وعلينا اجتنابها، تنير الغرفة شموع وتكثر في جنباتها الآنية الفخارية، ولم يكن لها نافذة، مما أضفى على جوها المختنق المبخر شكلاً من أشكال الحكايا الأسطورية.‏

الحركة الثانية:‏

مما يروى عن زهيّة أخت الشيخ أنها كانت جميلة جداً، وأن الرجال كانوا يخافون النظر إلى عينيها، لأن السحر المنبعث من تينك العينين كان يجعل القلوب تتهاوى صريعة حبها الذي لاينال.‏

وقد اعتكفت في كهف الباغوز (1) عشر سنوات، ثم هبطت من الكهف عارية، شعرها الأسود الفاحم قد نبتت عليه زهور جميلة، ونهداها ينسكب منهما الحليب، فيسيل أمامها نهراً من أنهار الجنة، ترك الأطفال صدور أمهاتهم وصاروا يلعقون الحليب من تحت قدميها، وفجأة، انتشرت الزهور التي كانت تغطي رأسها على الأرض، وصار حليبها يرفد الفرات بدفق غريب، فابيض ماء النهر، كان المشهد يشبه الحلم، زهيّة تسير فيرفع الفرات موجة ويسلم عليها، تهزّ رأسها فتنحني النخلات الشامخات كأنهن سكارى أصاب الناس الذعر، لأنهم ماعرفوا زهيّة إلا متعبدة، وكانوا يسمونها رابعة، فمنذ ولادتها نذرت نفسها لله، فلم يستطع أحد رؤية شعرة من شعرها، ولم يسمعوها تضحك وكانت ابتسامتها تضفي عليها مسحة من القداسة.‏

كانت تتلو آيات من القرآن فقط، وتسبح بمسبحتها الطويلة داعية الله أن يرحم البشر الخطائين الذين انصرفوا عن طاعته، وصاروا ذئاباً ينهش بعضهم لحم بعض.‏

تساءل الجميع هل من المعقول أن تتحول زهيّة إلى ساحرة؟ وقرر الطيبون أخذها ليراها السنسي ويدفع البلاء عنها، والسنسي هو جد الآلويسي، كانت زهيّة تتكلم، تحدق في الوجوه، حاول السنسي أن يلمسها فخرت مغشياً عليها، فأمر بإخراجها لأن ملك الجان قد سخطها وذوب في روحها منقوع الخرس، فأبكمها.‏

أخذها ملاّ علي إلى بيته. لتعتني بها زوجته الملاية فضيلة، وما أن أدخلاها إلى أحدى الغرف، وتركاها، حتى انطفأ القنديل الذي يضيء الغرفة، وسمعت أصوات التكبير تملأ البيت بأكمله، ويقولون إن الشيخ كان في بغداد يومها، لكن صوته سمع في طرقات البوكمال ينادي: انهضي يازهيّة، لأن إبليس يريد إغواء روحك الطاهرة أثناء مرضك، فتمتثلين لأمره، وتصيرين عاصية كافرة.‏

وحين دخل ملا علي ليرى ما حل بزهيّة، لم يجدها، وإنما شاهد عصفوراً صغيراً يطير في الغرفة، تخرج من حنجرته كلمات من القرآن، وحين حاول ملا علي إمساكه، مات العصفور وتحول إلى رماد، ومن يومها لم ير أحد ملاّ علي، وقالوا بأن أفعى ابتلعته وهو يتوضأ. وأما زوجته الملاية فضيلة فقد أصيبت بالعمى ولم تعد تخرج من بيتها إلى أن ماتت.‏

ومن اليوم الذي سمع الناس فيه صوته يتردد في الطرقات ولم يكن هو موجوداً، صاروا يسمونه الشيخ أخو زهيّة.‏

هامش الفصل الأول‏

1ـ كهف الباغوز: كهف يقع في قرية الباغوز، القريبة من البوكمال ـ يسميه السكان المحليون "الجهفة"




مع التحيات / يوسف غياث
 
اسم الموضوع : رحـــلـة زاعــم | المصدر : القصة والرواية

جواد البحر

مراقب سابق
إنضم
10 مايو 2008
المشاركات
5,088
مستوى التفاعل
0


الله يعطيك العافية [fot1]يوسف مكاوي [/fot1]على الطرح الرائع

تحياتي جواد البحر
cVu18939.gif

 
أعلى