"البدون" في السعودية هم الحلّ

ابوفوزانابوفوزان تم التحقق من .

:: مراقب عام ::
طاقم الإدارة


"البدون" في السعودية هم الحلّ
get


بعد أن أوقفت وزارة العمل الاستقدام من دولتي إندونيسيا والفلبين، قبل أسابيع، تساءل الكثيرون عن كيفية تغطية عمالة هاتين الدولتين، خصوصاً الأولى التي أثبتت أنها العمالة المنزلية الأنسب للسعوديين، وطرح الأستاذ فايز جمال الكاتب في صحيفة (المدينة) الاستعانة بالجاليات الموجودة في مكة، وأطلق عليهم تسمية البدون، ولقي هذا الاقتراح صدى طيباً في أوساط المهتمين بالشأن العام وحقوق الإنسان، وسلط الضوء على شريحة كبيرة تعيش بيننا، وهو صميم مقالتي الأولى في العزيزة "سبق".

تسمية "البدون" أتتنا كخليجيين عبر الصحافة الكويتية، التي أطلقت هذه التسمية على عديمي الجنسية الذين يعيشون على أراضيها، ولكن التسمية شاعت وانتشرت، ووصلت لبقية دول الخليج، وللسعودية تحديداً، وبات الاصطلاحيون والمشتغلون بالشأن العام فيها، يطلقونها على شرائح اجتماعية عدة لا تتمتع بالجنسية السعودية، وبات المجتمع السعودي اليوم أمام معضلة حقيقية مع هذه الشريحة.

يُقصد بالبدون الأفراد الذين استقر بهم العيش والمقام في السعودية منذ أمد بعيد، البعض يعده بعشرات السنين، الكاتبة السعودية إيمان القويفلي قالت: إنه حتى وقت قريب، كان يبدو أن مشكلة "البدون" مشكلة كويتية فقط. كانت الكويت تُعيّر بـ "بدونها". توجد فئات "بدون جنسية" في الكويت ووضعهم سيئ كما يعرف الجميع وينشر الإعلام الكويتي في حملاتٍ مركّزة منذ التسعينيات.. لكن في السعودية عندنا لا يوجد بدون، يوجد متخلفو "حجّ ولم يعد".

الباحث الأكاديمي الدكتور عمر عبدالله كامل يشير في حوار صحافي إلى أن شبه الجزيرة العربية بطبيعتها الجغرافية القاسية طاردة للسكان، كونها كانت تفتقر إلى مقومات العيش المستمر، وعبر الحقب الزمنية الماضية كانت جزيرة العرب كلما تكتظ بالسكان تبدأ الهجرات منها إلى مختلف بقاع العالم. ويضيف: "عندما ظهر البترول أصبحت جاذبة للسكان ومقومات العيش، خصوصاً عندما ارتفع سعر البترول في عام 1967، وبسبب التنمية التي حدثت بفعل الدخول المالية العالية من البترول أصبح هناك طلب كبير على الأيدي العاملة. في البداية كان الحجاج والمعتمرون يتخلفون عن العودة إلى بلادهم، كونهم يجدون فرص عمل جيدة، وهكذا استمر الحال نظراً لازدياد الطلب والاحتياج، وتشكلت النواة الأولى للمشكلة التي نحن بصددها الآن".

في تصور كاتب السطور أن فئة "البدون" السعودية تشمل ثلاث شرائح، تبدأ بأبناء القبائل في الحدود الشمالية والجنوبية للمملكة، الذين كان آباؤهم يتنقلون بين دول الحدود تلك، وتمرّ التسمية أيضاً على تلك الجاليات الإسلامية التي فرّت بدينها من اضطهاد الشيوعية، واستوطنت الحرمين على امتداد ثمانية عقود خلت من السنوات، ربما كانت الجالية التركستانية أولها، وتبعتها الجالية البلوشية، وأخيراً الجالية البرماوية.

تسمية "البدون" تطلق أخيراً على الجاليات التي أتت للعمرة والحج وتخلفت منذ عشرات السنين، ونشأت في ظروف غير طبيعية، من سوء الأوضاع الصحية والتعليمية، وبات المجتمع السعودي أمام الجيل الثالث منها، وربما كانت الجاليات الأفريقية والبنغلاديشية والإندونيسية، وبعض الإخوة العرب ينسلكون ضمن هذه الشريحة، التي تحولت إلى همّ كبير، وتمثل تهديداً على النسيج الاجتماعي السعودي.

والتقدير الإحصائي الحقيقي لأعداد "البدون" في السعودية غير معلوم على وجه الدقة، بسبب غياب الإحصاءات الدقيقة في هذا الصدد، لكن من واقع تواجدهم في المنطقة الغربية، وهي المنطقة الأساسية التي يتمركزون فيها يمكن تقدير أعدادهم، فليس هناك إحصاء دقيق يؤكد حجم أعداد الجاليات الأفريقية غير النظامية في منطقة مكة المكرمة التي يبلغ عدد سكان مدنها الثلاث (مكة وجدة والطائف) نحو 4.61 مليون نسمة، بحسب تعداد السكان والمساكن الأخير لعام 1425هـ.

هؤلاء بالتأكيد قنبلة اجتماعية موقوتة، ننتظر متى تنفجر، لا سمح الله. ويرصد إحسان طيب مدير عام الشؤون الاجتماعية بمنطقة مكة المكرمة السابق، بعض نتائج هذه الظاهرة بقوله: "إن خطورة وجودهم بهذه الأوضاع التي يعيشون فيها جعل منهم قنابل موقوتة. لو اطلعنا على إحصائيات أقسام الشرطة سنجد أن نحو 40 % من الجرائم لم يتوصلوا إلى فاعلها، وأن ما بين 50 60 % من جرائم السرقة تسجل ضد مجهول. نحن نعيش الآن في مشكلة حقيقية، والأخطر أننا في المستقبل لن نستطيع أن نسيطر على الوضع أبداً".

ربما كان تحقيق صحيفة (الوطن) السعودية الذي نُشر قبل عامين عن القضية؛ المؤشر للخطورة التي نذكر، وسندفع أكلافاً باهظة إن تأخرنا في حلّ هذه المشكلة، قالت الصحيفة: "وفي جدة بحي الصحيفة الشعبي، يمكن في دقائق معدودة لكل من فقد أو سرق منه أي شيء، أن يستعيده مقابل سعر معلوم يدفع لوسيط أفريقي في سوق معروف بـ (سوق الحرامية).

وفي حي غليل ينشط مروجو المخدرات بأنواعها، ومعاطن اللذة المحرمة فيما بات يعرف بحارة (جامايكا) المحروسة بشبكة بالغة التعقيد من المساكن العشوائية والطرق الضيقة، وعيون ترصد كل شاردة وواردة تدخل إليها.
وباستيعاب كل هذه المعطيات يمكن تفهم انتشار (حفر جهنم) في عدد من الأحياء الجنوبية، حيث يتم فيها بيع المخدرات وتسهيل الدعارة، والممنوعات بأنواعها، فيما يبدو أنه السبيل المتاح أمامهم ولا يستطيعون بفعل أوضاعهم البائسة سوى الرضوخ لشروط مافيا المخدرات والعصابات الإجرامية، للحصول على عائد مادي يعتاشون منه حياة الكفاف".

لربما أصطف هنا مع كثير من الكتّاب والنخب السعودية التي نادت بإصلاح أوضاع هؤلاء قبل أن تتفاقم، وأقترح منح من وُلد في السعودية ومضى على وجوده أكثر من أربعين عاماً، أو ذلك الزوج الذي وُلد بالسعودية، وتزوج من امرأة سعودية ومضى على زواجهما أكثر من عشر سنوات، أن يتم منحهم الجنسية فوراً، فهؤلاء انبّتوا عن أوطانهم الأصلية، وباتوا لا يعرفون وطناً سوى هذه البلاد التي وُلدوا فيها.

وبالنسبة لمتخلفي العمرة، ومن الذين ولدوا في السعودية، العمل فوراً على تصحيح أوضاعهم النظامية والدفع بهم لسوق العمل، والاستغناء عن العمالة الوافدة التي تستنزفنا اقتصادياً عبر تحويلاتها المليارية الشهرية، بينما هؤلاء الموجودون في مجتمعنا، كالجالية البرماوية مثلاً، الذين يناهزون 500 ألف نسمة، ويشهد لهم المجتمع المكي بالمهارة والأمانة، أن يعوّضوا غياب أولئك، ونفس الأمر ينسحب على الجاليات الأفريقية، التي حاولنا قبل عامين إرجاعهم لبلادهم، ورفضت استقبالهم بحجة أنه لا وثائق لديهم، وأنهم وُلدوا بالسعودية، فاضطررنا إلى إيقاف إرسالهم لبلدانهم الأصلية أمام ضغط منظمات حقوق الإنسان والدول الغربية، فباتوا في خواصرنا كعناصر غاية في السلبية والخطورة الأمنية.

علاج مشكلة "البدون"، واجب إنساني وديني، ومن الضروري الشروع فيه قبل أن تكبر كرة الثلج، ونندم حينها على ضياع فرص متاحة اليوم في أيدينا، ولكن وقتها لات ساعة مندم.

عبد العزيز قاسم
إعلامي وكاتب سعودي
 
عودة
أعلى