ومحطّةٌ توقّفٍ أُخرى يصدمـ بهآ قلبه الصّغير!
لمـ يعد يلمح تلكمـ الابتسآمة الْحَانِيَة وَالْيَد الْدَّافِئَة المربّتة على رأسهـ
تُشيع اطمئناناً وتمنحهـ قوّةً
تُوُفِّيَت أُخْتِه وَفَاضَت رُوْحَهَا نَحْو الْسَّمَاء
مُنَظِّرمُرَوِّع تُجَلْجِل فِي حَيَاة صَالِح فَاهْتَزت أركآن جسدهـ المُنهكهـ
واُغتيل الْفَرِّحَ مِن حَيَاتِه من جديد يرقب الوجوه هلعاً
ويرمي بـ ثقلهـ في حِضْن أَبِيْه يَأْوِيه ويُكسي خوفهـ أمناً
صَعِب عَلَى وَالِدِه حُزنهـ
وثقلت عليه تَرْبِيَة وَرِعَايَتِه وَشَعْر بأسفٍ عَمِيْق عَلَى طِفْلِه رَيْحَان قَلْبِه وَفِلْذَة كَبِدِه
وَبَعْد تَفْكِيْر عَمِيْق وَخَوْف شَدِيْد مِن الْمُسْتَقْبَل الْمَجْهُوْل تَزَوَّج مرّةً ثَانِيَة
لِيُوَفِّرلابنهـ من يُشْعِرُه بِالْحُب وَيكيل لهـ من الْحَنَان أوفرهـ
من هُنَا عآد تقَسْوَة الْحَيَاة وَاشْتَد ظلآمها فِي كُل زِرَايَة مِن أَرَجَاء الْبَيْت
اسْتَقْبَلَته زَوْجَة أَبِيْه بِوَجْه بَاسِمَ تُدْفَن بَيْن شَفَتِيْهَا سَم قَاتَل تَفُوْح مَنَهَ رَائِحَة الْحِقْد وَالْكُرْه
وعدم التقبّل لِذآك الْغُصْن الْصَّغِيْر الْهَادِي صَالِح
تسترسل الأيّآم في جريآنهآ و يكبر صَالِح بَيْن قَسْوَة الْحَيَاة وَمَرَارَة الْحِرْمَان وَالْظُّلْم ..
لَا يَعْرِف لِلْحَيَاة طَعْماً وَلَا يُغْمِض لَه جَفْن ..وَلِسَان حَالِه
أَنَا الْيَتِيْـمْ حَرُوْفِيْ وَسَطِ حَنْجَرَتِي تَقَطَّعَتْ كُلِّـمَا نَـادِيَـتَ: أَمْــــاهظ
أَنَا الْيَتِيْـمْ شُعَـــوُريْ مْـــــنَ يُلَمْلِمُهُ وَمَـنْ يَـرَقٍّ لَحْـالَيَّ مْـنَ سَيَرْعَاهُ؟
أَنَا الْيَتِيْـمَ حَيٍّـاتِـيَ كُلَّهَــا شَظَــفٌ وَذِكْرِيْـاتِيَ تذيـقَ الْقَلْـبِ بَلْـوَاهٍ
تعَامِلُه زَوْجَة أَبِيْه بَيْن يَدَيْهَا كَالْخَادِم الْخَاص لَهَا ..
عِنْدَمَا يَعُوْد وَالِدِه مِن عَمَلِه تَبْدَأ بِسَرْد الَشْكُاوُي وتختلق الحكآيآ على صَالِح ..
دُوْن خَوْف مِن الْلَّه فَسُبْحَان الْمُطَّلَع عَلَى أَكَاذِيْب تِلْك الْمَرْأَه
بَيْنَمَا كَان الْأَب يَحْمِل الْحُب الْعَظِيْم بَيْن حَنَايَاه وقلبه ينبض رقّة وشفقةً
بحبيْبِه الْصَّغِيْر صَالِح وَنِيَاط قَلْبِه تتفَطَّر لِابْنِه
ولكن ظُلم زوجته وهيمنتهآ عليهـ تُعمي مشآعرهـ وتدعوه أَن يَضْرِبُه وَيَذَوقِه الألم
.. ..
حَتَّى بَلَغ صَالِح مِن الْعُمْر 9 سَنَوَات هُنَا أَتَى يَوْم الْحُزْن شَاع الْفَقْر فِي بَلَدِه
وَسَاءْت أَحْوَال وَالِدِه الْمَادِّيه
فَلَم يَجِد لُقْمَة عَيْش يُسَد بِه جُوْع أُسْرَتِه فَاضْطر لِلْسَفَر مِن اجْل كَسَب الْرِّزْق
فَاخْبُر زَوْجَتِه بِرِعَايَة صَالِح رَيْحَان قَلْبِه الْصَّغِيْر .. هُنَا اشْتَد غَضَب زَوْجَتِه
وَثَارت هَائِجة وَصَرَخت فِي وَجْه : أُقسمـ باللّه إِن وطُأْت قَدَمَك خآرج الدّآر دون
لأفجعنّك فيهـ ولترينّه مقتولا !
خُذْه مَعَك وَتَخَلَّص مِنْه حيث شِئْت
.. ..
وَفِي الْيَوْم الْتَّالِي بَيْنَمَا صَالِح فِي مَدْرَسَتِه يَلْعَب مَع أَصْدِقَاءِه وَالْبَسْمَة تَمْلَا شَفَتَاه
إِذَ بِوَالِدِه يُنَادِيِه وَفِي عَيْنِه دَمْعَة أَسَى وَفِي حَدِيْثِه أَلْف لُغَة حَائِرَة ..
وَيَطْلُب مِنْه الْمَسآرعة لِتَوْدِيْع أَصْحَابِه فإنهم على سفر
وَقَف صَالِح حَائِرَا فِي اسْتِغْرَاب وَذُهُول شَدِيْد لَا يَعْرِف مَاذَا يَجْرِي
وَ مَالذي يَتَحَدَّث عَنْه وَالِدِه الْحَبِيْب فَحَزَم حَقِيْبَتَه وَلَمْلِم إِغْرَاضِه وَوَدَّع أَصْدِقَاءَه
وَفِي عَيْنَيه دَمْعُةٌ حَارِقهـ يَنْظُر تَارَة عن يُمْنُه وَأخرى عن شمآلهـ
ينقّل بصرهـ بين أَمَاكِن ذِكْرَيّاتِه وَشَقَاوَة طفولته و أَصْدِقَاءَه الَّذين شَارَكَهم الْفَرْحَة
وَالْبَهْجَة دَائِمَا أصدقآئه الذين طَالَمَا نسى أحزآنهـ بِصُحْبَتِهِم ..
حَتَّى وَصَل الْبَيْت وَحَزْم أَمْتِعَة سَفَرِه وَوَدَّع بَيْتِه الْصَّغِيْر وَإِخْوَتِه وَإِخْوَانِه مِن أَبِيْه
وَدُمُوْع الْعَيْن تِنْسَاب فِوق وجنتيهـ
آَهـــــات
إِذَا رَأَيْت الْسَّمَاء تُمْطِر .. فَأَعْلم بِأَنَّنِي أَبْكِي
وَإِذَا رَأَيْت الَنَاس يَبْكُوْن .. فَأَعْلَم بِأَنَّنِي رَاحِل
وَفِي الْطَّرِيْق أَخَذَه أَبَاه وَاحْتَضَنَه بِقُوَّة وَوَضَع يَدُه عَلَى رَأْسِه( بَنِي حَبِيْبِي الْصَّغِيْر صَالِح
تُحَمِّل وَاصْبِر أبوك يُحِبُّك وَسَيَبْقَى مَعَك وِبِجِوَارِك)
وَامْسِك بِيَد صَالِح الْصَّغِيْرة بِقُوَّة وَسَافِرا مَعَا على طريق امتدّ بحُزنهمآ وازدآد شُحوباً
وَلَيْس مَعَهما سِوَى كِيْس بِه رَغِيْف يتنآولآن منه النّزر القليل
وَعَاش صآلح ثلاثة أشُهُر فِي الْمِهْجَر مَع أبِيْه وَهُنَا كفِي الْدَّهَالِيْز الْمُوْحِشَة
لَفَّه الْبَرْد وَاعتصره الْجُوْع وَالْخَوْف
زئير الْرِّيَآح .. عِوَآء الَذَّئآب .. حَفِيْف الْأَشْجَآر
وَأَصْوَات الْوُحُوْش مِن كُل جَانِب
تُدْخِل إِلَى الْقَلْب الْرُّعْب..وتهزّ كيآنه الغضّ بعنف
..
حَتَّى وَصَلا إلى مكَّة وَاسْتَقَرا هُنَاك فِي بَيْت صَاحِب وَالِدِه أُسْبُوْعَيْن لِيَرْتَاحا مِن عَنَاء الْسَّفَر
وَبَعْدَهَا أَرَادا أَن يَخْرُج لِيَبْحَثا عَن عَمِل لَيَعْمَل ..
استوقفهما صَاحِب أَبِيْه فِي ذُّهُوْل شَدِيْد وَقَال : تَذْهَب لِلْعَمَل وَأَيْن سَتَأْخُذ صَغِيْرَك هَذَا .. ؟؟
قَال : أُرِيْدُه أَن يرافقني قَال : صَاحِبُه ماااااااااااااااذَا أَجُنِنْت
طِفْل صَغِيْر لَا يُعْرَف شَيئا وَلَم يَذُق بَعْد طَعْم الْحَيَاة تَرَيْدُه أَن يَتَجَرَّع الصُّعُوْبَات وَالْمَتَاعِب ..
حَرَام عَلَيْك جَسَدِه الْصَّغِيْر لَا يَحْتَمِل أَي مَتَاعِب وَهُو بِحَاجَة إِلَى مَن يُعِيْنُه وَيَرْعَاه وَيَهْتَم بِه ..
قَال : أَبِيْه خَيْرا إِن شَاء الْلَّه هَذَا قَدْر صَالِح وَعَلَيْه أَن يُحْتَمَل وَيَصْبِر وَيَجْتَاز كُل الَعَقَبَات
لِيُصْبِح فِي الْمُسْتَقْبَل رَجُلا شَامِخَا
لَا تَهُزُه أَعَاصِيْر رِيَاح الْحَيَاة وَأَمْوَاجِهَا الْهَائِجَة مَهْمَا اشْتَد فبغدو صُلب البُنية قويّ الرّوح..
..
غَادَر صَالِح وَأَبِيْه مِن دَار صَاحِبِه ..
وَبَدَءا الْعَمَل مَعا وَاسْتَقَر حَالِهِمَا وَسَار كُل شَيْء بِخَيْر وَالْحَمْد لِلّه ..
وَإِذَ بِالْأَيَّام تُعآود غدرها وتلوك صآلح لتنبذه موجوعاً منذوراً للبؤس
مرض أَبِيْه بِسَبَب كَثُر الْأَعْبَاء وَالضُغَوطَات وَلَم يَعُد قَادِرِة عَلَى الْعَمَل..
وَبَعْد تَفْكِيْر عَمِيْق وَاسْتِشارَة صَاحِبُه قَرَّر أَن يَعُوْد إِلَى مَنْزِلِه لِلْعِلَاج وَسَيَعُوْد حَالَمَا يَسْتَرِد صِحَّتَه
..
وَهْنَا اخَذ صَاحِبُه ابْنَه ِصَالِح فِي اهْتِمَامِه وَضَمَّه إِلَى رِعَايَتِه وَعِنَايَته بَعْد الْلَّه
فَكَان لَه بِمَثَابَة الْأَب يَرْعَاه وَيَحْمِيَه بِحَنَانَه وَيَغْمُرُه بِعَطَائه
وَيَبْذُل كُل خَيْر فِي مُسَاعَدَة وَتَوْجِيْهُه الَى مَا يَعُوْد عَلَيْه بِالْنَّفْع ..
.. ..
وَبَعْد شَهْر وَنُصْف تَلَقَّّى صَالِح خَبَراً نَزَّل عَلَيْه كَالْصَّاعِقَة
وَفَاة وَالِدِه إثَر مَرَضهـ الشّديد هْنَا ازدآد ظلآم الْدُّنْيَا فِي عَيْنَيْه وَاسَّوَدَّت عَلَيْه الْحَيَاة
وَضَاقَت عَلَيْه الْأَرْض بِمَا رَحُبَت
فقد أُخْمِدَت آخر الْمِصْابَيح الَّتِي أَضَاءت حَيَاتِه .. الْقِنْدِيْل الَّذي أشرق بالْأَمَل فِي طَرِيْقِه ..
و َبَنَى مُسْتَقْبَلِه وَقَاسْمَه الْحُزْن وَشاطَرِه الْفَرَح وَبَث الْقُوَّة فِي رُوْحِه
وَغَرَس التَّصلب عَلَى مُوَاجَهَة الْحَيَاة وَصُعُوبَاتِها فِي قَلْبِه
...
بِأَي صَبَر سَأَكْتُب عَنْك أَحْزَانَي .... وَأَي شِعْر سَيَحْمِل هُم وَجــدَانِي
وَأَي قَافِيَة فِي الْكَوْن يَا أَبَتِي ....تَكْفِي لِوَصْف فُؤَاد مُثْقَل عَانــي
فَالَحُزْن يَا أَبَتِي قَدْ عَاش فِي جَسَدِي .... وَالْمَوْت أَفْزَعَنِي وَالفَقَدَ أَبْكَانِي
وَالْدَّمْع فِي مُقْلَتَي قَدْ صَار يَحْرِقُنِي .... لَا لَسْت أَهْوَاه لَكِن لَيْس يَنْسَانِي
ذِكْرَاك فِي خَاطِرِي الْمَكْسُوْر قَد رَسَّخْت .... وَرَسْم وَجْهَك إِن أُغْمِضَت يَلْقَانِي
بِأَلأَمس كُنْت مَعِي أَوَّاه يَا أَبَتِي .... وَالْيَوْم يَا أَبَتِي مَن قَد سَيَرَعَانِي
مَن ذَا يُسَانِدُنِي وَبِالْحُب يَغْمُرُنِي .... أَم هَل اعِيْش تِجَاريحِي وَحِرْمَانِي
أَم هَل أَكُوْن يَتِيْمَا عَاش فِي قَهْر .... أَم هَل سَأَحْرَم مِن إِغْمَاض أَجْفَانِي
يَا لَيْتَنِي قَد مِت قَبْلَك يَا أَبَتِي .... وَلَيْتَنِي الْأَن فِي لَحْدِي وَأَكَفَانِي
لَكَان أَرْحَم مِن عَيْش بِلَا أَبَتـي .... وَلَا وِدَاد وَلَا قُلـــب لَه حَانِي
لَكِن عَزَائَي بِأَن الْمَوْت مَرْكَبُنَا .... مَا مِن نَجَاة وَلَا مِن مُرَكَّب ثَانِي