الضباع والأسود في غابة رانغون
د / عبدالوهاب الأفندي 
 
(1)
في اعتراضاته على مقولات سلفه توماس هوبز الذي ابتدع نظرية الحكم المطلق باعتباره الضمانة الوحيدة ضد الفوضى العارمة التي يصبح فيها الإنسان إما قاتلاً أو مقتولاً، علق الفيلسوف البريطاني جون لوك قائلاً إن دعوة هوبز للاستجارة بالطغيان من الفوضى أشبه بالقول إن من تهدده الضباع والثعالب سيجد الأمان في التحول إلى فريسة للأسد.
(2)
كثير من الحكومات تحولت من دورها المفترض إلى حامية لأمن المواطن إلى وحوش كاسرة أشد بأساً على مواطنيها من أسد الغاب. وفي خارج المنطقة العربية يبدو أن منطقة جنوب شرق آسيا لها أكثر من نصيبها العادل من هذه الوحوش. وخلال الأيام القليلة الماضية، أعادت الأنباء إلى الأذهان محنة تلك البلدان، حيث بدأ هذا الأسبوع تقديم وزيرة الرعاية الاجتماعية السابقة في حكومة الخمير الحمر الشيوعية للمحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، إضافة إلى المشهد المؤلم لحكومة بورما (ميانمار) العسكرية وهي تحرم ضحايا الإعصار من الإغاثة التي تمس الحاجة إليها.
(3)
إنها مفارقة مؤلمة وبالغة الدلالة أن تقف وزيرة الرعاية الاجتماعية متهمة بارتكاب جرائم هي نقيض مهمتها. وقد كانت ينغ ثيريث من مؤسسي منظمة الخمير الحمر وأقوى امرأة فيها، حيث كان زوجها وزير الخارجية كما كانت أختها زوجة بول بوت زعيم عصابة الخمير الحمر. وقد اتهمت بالتواطؤ في مقتل أكثر من مليون ونصف شخص قضوا من الجوع في المزارع الجماعية دون أن ترفع إصبعاً لمساعدتهم.
(4)
حكومة تتحول إلى عصابة قتل مجاني، ومزارع يموت فيها الناس جوعاً، ووزيرة رعاية اجتماعية تشرف على التجويع الجماعي: هذه هي فقط بعض آيات المأساة التي مثلتها تلك الحكومة التي زعمت أنها بصدد بناء جنة أرضية ومجتمع خال من الطبقات. وقد كان من خطل هذه العصابة أنها رأت أن تساوي بين الناس في الجهل والفقر، حيث قامت بقتل وتهجير المثقفين والمهنيين بالجملة، وإخلاء المدن من سكانها وغير ذلك من جرائم التعذيب والقتل الجماعي.
(5)
من الصعب تصور أن من يقومون بمثل هذه الأعمال يتصرفون بناء على مثاليات، أو أن في قلوبهم مثقال ذرة من خير. ولكن النفس الإنسانية قابلة على ما يبدو لشرور كثيرة باسم خير متوهم. حكومة بورما الحالية افتقدت منذ دهر أي شبهة البحث عن مثاليات، خاصة بعدما خسرت الانتخابات التي فصلتها على مقاسها في عام 1990، وكسبتها المعارضة. فقد أدركت حينها أن الشعب البورمي في غالبه عدو لها، فأخذت تبادله عداء بعداء.
(6)
ولكن أسوأ الحكومات الاستعمارية لا يمكن أن تفعل ما تفعله الحكومة البورمية الحالية التي تمنع الإغاثة عن مواطنيها بحجة أن دخول موظفي الإغاثة الأجانب يهدد سلطانها. فلو كانت هذه الحكومة مسؤولة عن قطيع شياه لما كان ما فعلته مبرراً. فكيف يمكن لأي جهة، حتى لو لم تكن مسؤولة عن حياة الخلق أن توازن بين سلطانها المطلق وحياة مئات الآلاف.
(7)
هناك نقطة معينة تتحول بعدها الحكومة من سياج يحمي أمن المواطن ويسهر على راحته إلى وحش كاسر يستعاذ بالله من شره. ولكن الوصول إلى هذه النقطة قد يأتي دون أن يشعر به أحد. ذلك أن أشد الحكومات ظلماً واستبداداً تكون حريصة على حد أدنى من حسن سير الأمور لأن البلد يكون بمثابة ضيعة تستمد من صلاح حالها قوتها. ولكن ما حدث في بورما وقبل ذلك في كمبوديا، وما يحدث في بلاد عربية كثيرة من عداوة مستعرة بين الحكومات وشعوبها، وتوجس الحكام من كل نشاط عادي للمواطن، يؤدي بالضرورة في نهاية الأمر إلى وضع لا تجد فيه هذه الحكومات خياراً غير التحول إلى وحوش كاسرة.
(8)
كما قال المسيح عليه السلام عن السبت، فإن الحكومات جعلت لخدمة الإنسان المواطن وليس العكس. وإذا كانت هناك حكومة ترى ألا بقاء لها إلا بفرض الجوع والموت على مواطنيها، فإن زوالها يصبح أكبر خدمة تقدم للشعب. نسأل الله أن يعجل الفرج لأهل بورما وغيرهم من ضحايا الطغيان.
مماراق لي
 
	 
 
		 
 
		