ما إن تبصرهن، حتى تبصر فيهن شموخا لا تخطئه عين البصير، حيث أخذن من والدهن ملامح إباء وعزة طالما تربين عليها في بيت "الشاهد والشهيد".. أولئك هن "جارات نخل السماء"ـ كما يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش ـ ، متدثرات بالصمت والحكمة، ومزدانات بكثير من التواضع، لا تعوزهن اللياقة ولا الكياسة، فهن بنات أبيهن، اللواتي اشتقن لأيام كن فيها يتحلقن معه على المائدة، يتناولون الغداء معا، أو يشربن كاسات الشاي وفناجين القهوة، و الأقداح تفيض من حكايات التاريخ وعبره. هن كريمات "الفيصل".. الأميرات لطيفة، وسارة، ولولوة، وهيفاء، بنات الملك فيصل بن عبد العزيز، اللواتي ورثن أناقة أبيهن، وطول قامته، وهدوء حديثه.
تقف الأميرتان لولوة وهيفاء الفيصل، مسلمتين على كل زائرة لمعرض "الفيصل شاهد وشهيد"، وتُعرفان عن نفسيهما باسميهما مقترنين باسم والدهما. تشعر كأنك تزورهما في منزلهما في كل مرة تراهما فيها، خاصة وأنت أمام بوابة المعرض.
 
 
زاوية الحكايات
 
ما إن طلبت من الأميرتين أن تحكيا لي عن والدهما، حتى سارعتا إلى تغيير مقعديهما بهدوء وابتسامة، لتصحباني معهما إلى ركن هادئ، تغرفان فيه حكايات ما تزال محفورة في الذاكرة، لحياة مليئة مع الأب الحنون. 
في الركن القصي، تشعر بدفء اللقاء، وكأنك أمام سيدتين تعرفهما منذ زمن طويل، لا تملك إلا أن تبتسم وتحبهما، كأنك رأيتهما أو تعرفت إليها سابقا، فلا رهبة اللقاء الأول تتملكك، ولا قلق السؤال يلجم فاك. 
 
الملك الأب
تحكي الأميرة لولوة لـ"الوطن"، كيف كان فيصل "الأب"، فتقول "عهدناه والدا حنونا مثل كل أب، لطيف في تعامله، وعطوف على أبنائه وبناته، لم يفرق بين البنين والبنات، يعاملهم بنفس المستوى، فجميعهم أبناؤه. يجلس معنا في بعض وجبات الغداء، وحينما ازدادت مشاغله، خصص لنا يوما في الأسبوع نتناول فيه وجبة الغداء معا"، مضيفة "كان منظما جدا في أوقاته، فالطعام له وقت محدد. ومدينة الطائف كانت المكان الوحيد الذي نتناول الغداء معه فيه، وكان يسأل كل فرد عن أخباره، ويتفقد ملامح وجوهنا، ويطمئن علينا بعطف الأب وحرصه، كنا نعيش مثل أبناء جيلنا، ولم نشعر أننا نختلف عن أحد في أسلوب حياتنا".
 
بستان الشعر
الحديث الذي استرجع صور الماضي "الجميل"، واصلته الأميرة هيفاء، نافضة الغبار عن ذكرياتها، فاتحة كتابها، تالية علينا صفحات منه : "نفضل يوم الجمعة وننتظره طوال الأسبوع، فهو اليوم الذي يقضي والدي الملك فيصل أغلب الوقت فيه معنا، لقلة مشاغله نسبيا في ذلك اليوم. يتناول معنا الغداء، أو إن اضطر لتناول الغداء مع الرجال، يأت ليجلس معنا بعد الغداء في البستان، حيث نجتمع به جميعنا طوال يوم الجمعة حتى المساء. تهمه الأشعار، وإن كان لم يسمعنا نظم أشعاره، ولكن يستمع للشعر من إخواني ويستمتع به، وينصت لنا واحدا تلو الأخر، ويحكي لنا كثيرا عن جدنا الملك عبد العزيز، صغارا وكبارا، لنعرفه أكثر" كاشفة عن أن الفيصل كان "يسرد لنا التاريخ، والأمور التاريخية المهمة، ويناقشها معنا ". جلسات تتوق لها الأميرة هيفاء، متمنية لو عادت، قائلة "نشعر بأننا نجلس مع الأب الحنون في ذلك الوقت، الحريص على أبنائه وتعليمهم وتربيتهم بالشكل الصحيح، رغم أن هم الدولة والبلد كان نصب عينيه ، ولا يفارقه حتى في نومه، سعيا وراء السلام العالمي والإصلاح الداخلي".
 
الأم الواعية
عن والدتها الأميرة عفت الثنيان، تقول الأميرة لولوة "لوالدتي دور كبير في تعليم الفتاة السعودية، حيث كانت تردد دائما أن التعليم هو السلاح الأهم الذي ستواجه به أجيالنا أي صعوبات". ذاكرة أن مدرسة "دار الحنان" هي أول مدرسة منهجية نظامية في المملكة، أنشأتها الأميرة عفت، ودرست بها الأميرة هيفاء في المرحلة الابتدائية، قبل اللحاق بشقيقتها إلى مدرسة لوزان الداخلية، في سويسرا.
 
5 فرنكات أسبوعيا
تتذكر الأميرة لولوة طفولتها ودراستها، فتقول "أقنعني والدي بالذهاب للدراسة في سويسرا، في مدرسة داخلية"، حيث لم تتجاوز 12 عاما، مضيفة " كنت أستلم مصروفا أسبوعيا 5 فرنكات، وهو مبلغ كان أقل مما تحوزه كثيرات من زميلاتي هناك". موضحة أنها لم تشعر بأي تفرقة في المدرسة كونها ابنة الملك السعودي، لتلحق بها تاليا شقيقتها الأميرة هيفاء، وتستلم الخمسة فرنكات ذاتها في الأسبوع.
الحياة العصامية، والاعتماد على النفس، والتربية الذاتية، كانت جزءا من النهج الذي تربت عليه الفتاتان "الصغيرتان" حينها، غير متخذتين من "الملك" والدهما، جسرا للشهرة أو التميز على قريناتهما. حيث تستذكران أنهما كانتا تملآن حقائبهما عند السفر لتأخذان معهما جميع الحاجيات بما فيها الصابون، والشامبو، والمواد الاستهلاكية الأخرى، لتتمكنا من توفير مصروفاتهما هناك، وحتى تتمكنا من الادخار.. ادخار ليس سببه "الشح"، وإنما تربية النفس، وتوطئتها على الحياة، مستدركتين أنهما تمكنتا في آخر سنة قبل التخرج من زيادة المصروف ليصل إلى 10 فرنكات أسبوعيا، والعودة إلى المملكة بعد قضاء خمس سنوات، في مدارس "لوزان" الداخلية. 
وتستذكر السيدتان كيف كانتا طفلتين تدرسان في مدرسة داخلية، ولا تتمكنان من زيارة بلدهما وأسرتهما إلا في الإجازة الرسمية السنوية، وليس مصرحا لهما زيارة بلدهما في العيدين، حيث لم يكن يتم التعامل معهما بشكل مميز، وإنما يتم تعليمهما في المدرسة بمساواة تامة مع الجميع.
 
 
 
حضور الأب
وحين سألنا الأميرة لولوة عن شعورها الطاغي حاليا تجاه والدها، قالت "إن أقوى ما أشعر به هو اشتياقي لوالدي، وأتذكره في جميع المواقف، وفي كل الأوقات، وفي الشدة والرخاء، فهو يسكننا" ،مضيفة "لو كانت هنالك كلمة يمكن أن يسمعها لقلت له: اشتقنا لك يا والدي".
 
شغف فتاة سعودية 
فتاة عشرينية، لم تعرف الفيصل إلا سماعا، وعبر كتب التاريخ، وحكايات الآباء، لا تخفي إعجابها بشخصية الرجل الذي قاد زمام البلاد في مرحلة تاريخية حساسة. الفتاة الشغوفة، هرعت مسرعة تسلم على الأميرة لولوة، طالبة منها بعد أن استحوذت على المقعد الملاصق، أن تحكي لها حكايات الملك، وحياته الخاصة، وأمورا لا يعرفها الناس، ولم تقرأ عنها بعد. جلست الفتاة الحاضرة جسدا وقلبا، في المقعد الملاصق للأميرة لولوة، وقالت "أرجوك يا سمو الأميرة، احكي لي عن الملك فيصل، والأميرة عفت زوجته، أحب أن أسمع ما لم يعرفه الكثير قبلي، كيف كان الفيصل إنسانا وأبا؟".
الأميرة لم تتخلف عن تلبية طلب الفتاة، وجلست تروي عطشها، بقصص وذكريات لتشبع فضولها، فيما هي كلها آذن واعية.
 
إحساس الشباب
وعن الشريحة التي يتوجه لها معرض "الفيصل شاهد وشهيد"، أوضحت الأميرة لولوة، أنه متوجه لجميع الطبقات والفئات الاجتماعية والعمرية، ولكنه في ذات الوقت يحمل إحساسا للجيل الذي لم يعاصر زمن الملك فيصل، صوتا وصورة، وحضورا وخطابات. موضحة أن من أهدافه أن يتعرف الشباب ممن لم يعش تلك الفترة على تاريخ الملك فيصل، كونها فترة مهمة من تاريخ المملكة، ولم يعشها هذا الجيل الذي ولد في ظروف مختلفة، وبعقلية وطريقة تفكير مختلفة، عما كان سائدا في الستينيات والسبعينيات من القرن الميلادي المنصرم. موضحة في هذا الصدد أن "هذه السيرة لا يمكن أن تحتويها المناهج الدراسية، فالطالب غير مطالب بدراستها جميعها، وإنما من أراد البحث الخاص للاطلاع على فترة حاسمة في المملكة، فيمكنه بهذا المعرض الاطلاع عليها، خاصة أنه يحمل عرضا لخطاباته، فينقل الإحساس للشباب، وليس الاكتفاء بقراءة التاريخ فقط".
 
الجيل الجديد
شباب اليوم، والجيل الجديد من الفتيات والشبان في المملكة، خصوصا المتعلمين منهم في الجامعات، وأصحاب الطموح العالي، يثيرون إعجاب الأميرة لولوة، قائلة "يعجبني شباب اليوم كثيرا، لأن الجيل الذي قبله منحته الظروف فرصا لا بأس بها، لكن الجيل الجديد لا بد أن يعمل، ليحصل على فرصته"، مؤكدة أن الأجيال التي سبقتهم كانت الفرصة متاحة أمامهم بشكل أكبر، مشيرة إلى أن نشاط الفتيات والشباب وطموحهم حاليا، يجعلها تفخر بالشباب السعودي من الجنسين، وترى أن مستقبله بمقدار إصراره، سيكون مميزا .
 
المرأة اليوم
لكن، ماذا عن المرأة السعودية اليوم؟ وماذا عن موقعها، ودورها، مقارنة بما كانت عليه في تلك الأيام؟ تجيب الأميرة هيفاء الفيصل بقولها إن "أهمية المرأة السعودية، هي أهمية أزلية من الأجداد حتى اليوم، لكنها الآن أكثر وضوحا في عالم العولمة والإعلام". مشيرة إلى أن "المرأة السعودية لها أهميتها طوال العصور والأزمنة الماضية، حتى في جيل البادية والترحال، كانت المرأة والأم، هي أساس المنزل، ويعتمد عليها الرجال لتستقيم حياتهم"، مضيفة "ربما المرأة السعودية اليوم أكثر وضوحا وبروزا، بسبب الإعلام الذي أوضح لنا إنجازاتها وأهميتها"، ضاربة مثالا بـ"الإعلاميات الشابات"، التي ترى أنهن من الأدلة على التغيير الذي شهدته المملكة، كما أن الرجل تقدم خطوة بخطوة، مع المرأة، مؤكدة أن الزمان تغير، و أن رجاله ونساءه تبدلوا، وتطورت الأفكار والمفاهيم لديهم. 
 
قبلة الجد الصباحية
الحفيدات هن الأخريات، بدورهن يتذكرن الفيصل الجدّ، فتحكي الأميرة مشاعل بنت فيصل بن تركي، عن جدها بحبور، فتقول "كنت أقابله كل صباح، عند ذهابي إلى المدرسة، في مرحلتي التمهيدية، وأقبله كتحية يومية على رأسه. وكانت معي أختي الصغرى التي ترفض تقبيله، وحينما أجبرتها مرافقتي على تقبيله، أخبرها الملك أن تتركها على راحتها، مصرا على ألا تُجبر أي طفلة على عمل شيء لا تريده. كان رحوما لطيفا مع الأطفال، وطيب القلب". 
 
يوم وفاة الجد 
تتذكر الأميرة مشاعل، يوم وفاة الفيصل، ساردة "لا أنسى يوم وفاة الملك فيصل، كنت في المرحلة التمهيدية، وكنت عائدة من المدرسة. حينما وجدت حرسا كثيفا يطوق القصر على غير العادة، فحارس واحد كان يحرس البوابة عادة، وعند دخولي إلى المنزل أخبرتني نسوة هناك أن الملك فيصل فارق الحياة، وبكيت رغم صغر سني، إلا أنني أدركت أن مصابنا جلل، وأنه لن يرجع ثانية، ولن أراه كل صباح كعادتي".
أما الأميرة سارة بنت عبد الرحمن، فتقول "تمنيت لو عشت في زمنه وأيام حياته، وأشعر بالغيرة من قريناتي من أحفاده، لأن كل حفيد يحمل ذكرى موقف أو أكثر له مع الملك فيصل، لكن صغر سني، حرمني من ذلك، حيث ولدت بعد وفاته" . وأضافت "حتى الصغيرات جدا من أحفاده، حدثت معهن مواقف لا يتذكرنها، لكن حُكيت لهن من بعد، ممن شاهد تلك المواقف"، قائلة بشيء من الحبور والنشوة "إنني فخورة بأنني حفيدة الملك فيصل، فقد كان شخصا يستحق الفخر".
 
 
 
المصدر : الوطن